عزاء
عمر أحمد
قبل أن يخرج من البيت، دخّن كثيرًا، لبس معطفه، وخلّى كل ظلاله الليلية في البيت، فتح الباب بهدوء ودفع نفسه.
مشى متخبطًا حتى وصل الساحة العامة، ثم تذكّر الشيء الوحيد الذي دفعه للخروج من المنزل؛ شاعرٌ يحبّه مات، ورغب في أن يقوم بالواجب، مشى محدقًّا في وجوه الماشين مثله، فكّر في أن يسأل بائع اليانصيب، تردّد "من المؤكد أنه لا يقرأ الشعر" لكنّه ذهب إليه، وصفعه بجملته الحزينة:
-هل تعرف الشاعر فلان؟
-أعرف أنّ أوراقي ستربح مبلغًا جيدًا، قالوا لي عندما تسلّمتها أنّني محظوظ وسأسعد كلّ من يشتري منّي، هل تريد تجربة حظّك؟
-هل تعرف أن الشاعر فلان مات؟
-فليمت من يريد الموت، أوراقي رابحة، ستموت وأنت راضٍ إن اشتريت مني، هيّا اشترِ أيها الحزين، ثمّة سعادةٌ عظيمة في انتظارك عند ليلة الكشف عن الفائزين.
تركه وأكمل مشيه. أمام كشك القهوة وقف شبّان الحي بذقونهم الكثيفة وجيوبهم الفارغة إلا من نقود قهوة الليلة وتكلفة علبة سجائر الغد، اقترب من شباك الكشك وطلب قهوةً ثقيلة وخالية من السكّر، ثم التفت إليهم وصرّح:
-اليوم الشاعر فلان مات، هل تعرفون ماذا يعني هذا؟ ألا تعرفون الشاعر فلان؟ إنه يكتب شعرًا جيدًا، تستطيعون أن تقرأونه بينما أنتم تدخّنون، وتتناقشون فيما بعد عن ما إن كان يقصد في قصائده حبيبته أم الوطن.
لم ير الفضول على وجوههم، أخذ قهوته التي كانت قد جهزت، وقال مودعًا:
-عندما يموت شاعر عظيم، عليكم أن تحزنوا أيها الشبّان اليائسون، بهكذا حزن ستعرفون أن الحياة لن تكون جديرةً بالعيش مثلما كانت من قبل.
"آهٍ أيها الراحل ما أجمل أن لايعرفك أحد غيري، وما أصعب مهمتي هذه الليلة" عزّى نفسه وأكمل مشيه. الطلقة الأولى جاءت في يده اليسرى، وقع فنجان القهوة وارتدّ جسده، ثم استقبلت الأرض جسد الحزين على موت شاعره، ركض الشبّان الذين كانوا يقفون أمام الكشك نحوه، رفعه أحدهم عن الأرض وهو يسأل مبتسمًا ومطمئنًا في الوقت نفسه:
-ماذا هناك ياعمّ؟ ألم ترَ الشجرة أمامك؟ هل تسكن جديدًا هنا؟ إنها من أهم معالم مدينتنا التعيسة.
صُعِقَ، ثم بجملةٍ مختصرة تدارك الموقف:
- لا لا، كلّ مافي الأمر أنّني شردت فجأة ولم أر الشجرة.
لم يسألهم عن مصدر الطلقة، ولا عن صوتها الذي اخترق اذناه الإثنان، حتى إنه لم ينتبه أن يده نفسها سليمة ولا أثر لأيّ شيء، "هل أصابني الخرف؟" سأل نفسه بشكّ قاتل، ثم بدأ بسرد ما فعله اليوم ليثبت لنفسه أنه سليمًا ولا زال شبابًا كما اعتاد أن يقول لنفسه كلّ ماواجه المرآة. استيقظت متأخرًا، تناولت إفطاري، جلبت الجريدة ثم وجدت الخبر الصاعق، الذي كان مكتوبًا في زاوية صغيرة، صغيرة جدًا حتى أجزم أنّني الوحيد الذي اكترث للخبر لشدّة ضآلة المساحة التي كُتب فيها، "الشعر يودّع ابنًا عزيزًا عليه، الشعر يودّع الشاعر فلان".
أنا فعلت كل هذا اليوم نعم، من أين جاءت هذه الطلقة إذن!
اعتبر أنّ كل حادثة الطلقة هذه خيال رخيص لا تفسير له، ورغم شحوبة الوجه المقتول بالتجاعيد ضحك، ثم أشعل سيجارة وقعد على مقعدٍ عام وأخذ ينظر إلى الشجرة الضخمة التي ارتطم بها وعلى يده التي يستطيع تحريكها براحةٍ لم يشعر بها من قبل.
"الطلقة الثانية" صرخ قبل أن يرتطم رأسه في حافة المقعد الحديديّة، هذه هي النهاية التي لم يرغبها طوال حياته، الطلقة التي لم تستقر في جسده عندما كتب قصيدته الأولى، ظلّت تحوم في الهواء خمسين سنةً كاملة لتستقر الآن في رأسه، تحلّق الناس حوله، طلبوا الإسعاف، وفي وسط كل هذه الجلبة، صرخ أحدهم مندهشًا: هذا هو الشاعر فلان الذي مات اليوم، ألا تعرفونه؟ هذا هو الشاعر الجيّد الذي قتله تخيّل الموت في قصائده، عارٌ ألا تعرفونه!
لم يردّ أحد، جاءت سيارة الإسعاف حملت الجثة، في اليوم التالي تأكّد من موته في مساحةٍ ضئيلة في الجريدة، وبأناسٍ كثيرين في الشارع لا يعرفون موته.
عمر أحمد كاتب من سوريا في العقد الثاني من عمره. كتب القصة خلال انعزاله عن كلّ شيء الكتروني، وسماعه مصادفة -بعد يوم من الحادثة- بموت الشاعر مريد البرغوثي.
يمكن متابعة حسابه على انستجرام وتويتر@omar1day