فتاة البالون الأحمر
أمال برحمة
لليوم الثالث على التوالي، أنتظر عودته مجددا لكن لا جديد. مهما حاولت التقصي عنه لا أراه، أقف أمام شجر الصبار المقابل لمنزل العم أحمد. منزله ضخم قديم يطل على أراضٍ شاسعة تمتد لمسافات ومسافات لا يطالها بصري، وكل ما يشغل بالي هو عودة بالوني الأحمر. كل ما يرجوه قلبي أن أفرح به من جديد، لا أستطيع التصديق أن السبب الوحيد لسعادتي يرحل عني.
في كل مرة أقف هناك تطل علي زوجة العم أحمد تنتظر معي، وفي كل مرة نشاهد كيسا من البلاستيك يحوم في الأرجاء يعيد إلي بعضا من الأمل في العودة. وما هي إلا لحظات ارتفع أذان العصر موعد عودتي للبيت. سابقا كنت أخشى الرجوع للمنزل خوفا من ضرب والدتي المبرح، والآن لا يهمني. ما هي إلا ربع ساعة من الضرب والعض والخدش وتمر، وأقوم ببقية أعمالي المنزلية.
يمكن أن أصف الآن ما سيحدث، بمجرد دخولي ستمسك شعري بكل قوتها وتبدأ في الضرب المبرح، بعدها تقوم بعضي وسحب شعري بقوة أكبر حتى يهدأ غضبها قليلا، وتبدأ في الضرب في كل مرة.
أحيانا أعاقب بالنعل البلاستيكي المخصص لي، أحيانا أخرى بالكي، وأحيانا ترميني بأي غرض تستخدمه. وأكثر الأغراض المفضلة لديها في ضربي هي مغرفة الطعام الكبيرة، المهم أن تكسر رأسي.
بين ليلة وضحاها فرض علي النضج، وجب علي التحول لامرأة ناضجة أطبخ وأخبز وأكنس. وأقضي طيلة اليوم في التنظيف والترتيب، هذا غير إكرام الضيوف والأقارب، والاعتناء بمدارس إخوتي وحياتهم اليومية.
وجاء اليوم الغريب أعجب يوم مر في حياتي، لحد الآن لا يمكنني التصديق أن ذلك ما حدث، لم تكن صبيحة العيد ولا يومًا وطنيا، ولا احتفالا عائليا بمناسبة معينة، كان يوما كبقية الأيام.
يفتح الجلاد أدواته في بداية الفجر، وينتظر جسدي الصغير ليمارس عليه طقوس الموت المعتادة، وكعادتي أختبئ في المطبخ لعلي أكتشف فيه قطعة خبز يابسة أو بعضا من الطعام القديم، يسكت الوحش الذي يزمجر في بطني ويمنع نفسي عن الهدوء.
سمعت نداء والدتي الخفي و هي تعشق هذا النوع من المحادثة، فإن رفضت الإجابة أو أصبت بصمم مفاجئ كان سببها لقتلي وإفراغ شحنات العصبية اليومية علي. توجهت لغرفتها وأطرافي تتراقص من صوتها، وأعضائي ترتجف خوفا ورهبة من مزاجها المخيف، ولمحت لبرهة في يديها شيئا أحمر اللون.
طلبت مني الاقتراب دون خوف و تردد، وحاولت بكل قوتي الاقتراب لكن رعب التعذيب لا يغادر بالي. صرت أخشى على نفسي كل يوم الموت على يديها، وعددت الوقت لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة حتى يحين موعد لقائنا لأول مرة.
بالوني الأحمر هو أول صديق لي، رمز البهجة والسرور والمحبة والمودة. بالوني الأحمر لون حياتي الرمادية وأوقد فتيل النور على جثة حية تعيش في منزل فقير غادرته السعادة للأبد. بالوني الأحمر أول علامات الحب والفرح والسعادة، وأول ما نبض قلبي له ثقة وعشقا وأمنا، وأقسمت على جعله شريكا لرماديتي ورجوت أن تهلك شراراته الحمراء غيومي الرمادية و سحبي السوداء.
مرت ساعات ودق الليل على باب منزلنا بهيبة وجبروت، وأسدل على قريتنا الصغيرة رداء النوم والكرى لساعات وساعات. جلست في زاوية الغرفة أمام الموقد المشتعل وأخرجت بالوني من مخبئه السري.
شممت عبقه وحفظت لونه الفاقع وبدأت في نفخه، وفي كل مرة أسعل بقوة وتنقطع أنفاسي، ثم أعيد الكرة مجددا. لكن حتى السعادة تؤلم صاحبها، حتى المتعة تسبب الوداع لطالبها. رفضت الإذعان لنفسي المتقلبة وقلبي المدمن على الأحزان، وواصلت نفخه حتى تشكل في صورة بيضاوية الشكل بلون أحمر فاقع كلون النار المستعرة في موقدنا.
عشقت لونه وشكله، وبادلني البالون الشعور ذاته. كنت في فقاعة من الحب والفرح والنشوة المطلقة، وتلاشت علامات الخوف والقهر والرغبة في الموت كل يوم، للحظات تذوقت طعم المتعة وما ألذ طعمها حقا!
تجدد اليوم وتكررت الأحداث ذاتها ولا سبيل للقاء خاص مع بالوني سوى شوارع قريتنا، ولا أجد مكانا أفضل لبث ضحكاتي الرمادية. وبعد نقاش طويل مع والدتي استطعت نيل رضاها واقتنصت فرصة للخروج.
فلا أجد سبيلا للقاء معشوقي سوى هذه اللحظات، اتجهت مباشرة نحو منزل العم أحمد. هناك أفضل الأماكن للعب والمتعة المطلقة. نفخت بالوني وارتسمت على وجهي ابتسامة مشعة. لبست نعلي المقطع وفستاني الرقيق المرقع في عز الشتاء.
تغيرت الريح وتلونت السماء بلون شديد الزرقة، وأطربت العصافير مسامع الجميع، كأن السماء تشاركني فرحتي وتسعد لسعادتي. أدمنت الحزن حتى انتشت منه أعضائي. ويوم تذوقت السعادة استجاب لي الكون بأكمله رقصا وغناء. اتجهت لزاويتي الخاصة حتى تبدأ أولى ذكريات الحزن الطويل.
رافقتني الرياح متعة وفرحا، وحملت بالوني الأحمر في الأجواء، وتراقص بالوني في كل مكان وملأ الدنيا ضحكا وسرورا. فتارة يركض خلفي و تارة أركض خلفه، مرة أناديه بأفضل كلماتي وتارة يناجيني بأحلى عباراته، ولحظة بعد لحظة ارتفعت الضحكات وازدادت حمرة وخجلا، وأعلنت للجميع أن للفرح قوة جبارة لا يمكن التغافل عنها.
وفي لحظات السرور أصر اليأس على الدخول بقوة، وارتفعت ستارة المسرح معلنة وصوله، وتطايرت الأوراق اليابسة هربا وخوفا من ظلمه، وقطع بحدته حبل بالوني الأحمر، ففر المسكين بعيدا عن ساحة الحزن هذه، واختفى بين تصفيق جمهور ميت لم يبق له وجود.
وعلى الأراضي الشاسعة البعيدة رحل بالوني في نزهة خاصة. وأقسم أن يعود لي من جديد، وإلى اليوم بعد مرور خمسين سنة من الصبر والانتظار لا يزال الأمل في عودته يقبع في زوايا قلبي الصغير، والأمل في الرجوع لن يرحل من نفسي على الإطلاق.