منازل صيفية
ولاء فهد شديّد الحربي
الحمام صار يشبه الحمامات العامة، مناديل التمسيح السريعة الاستخدام نفدت، بالوعة حوض الاستحمام مسدودة بشعرٍ وذراتِ رمل، وعلى سقف الحمام وأركان نافذته الصغيرة عشّشت شباك العناكب. بعد أسبوع من الاستحمام اليومي، أفرجت دكة النافذة الخشبية عن ديدان نتجت عن التعفّن الذي سبّبته الرطوبة.
*
كان من الصعب تجاهل عمارة المنازل في المنطقة، إذ كانت بمثابة نماذج مصغرة لقصورٍ تاريخية خالية من عروشها، كلها تأتي بألوانٍ شاحبة ونوافذ محطمة، كلها أيضًا لها تصاميم معمارية فنّيه رفيعة تشي بأنها كانت ملكا لعوائل طاغية في الثروة يومًا ما.
*
صاح بها الرجل من الأسفل، حاملاً في يده زجاجة، أن تُغادر الشرفة. كان قد رآها قبل قليل وهي تجرجر الكرسي الخشبي الثقيل وتصعد به إلى الأعلى. قال إن للشرفة بُنية هشّة وأنها قد تنهار في أي لحظة.
*
سكة الحديد تقسم المنطقة إلى قسمين، ما يأتي فوقها قريبًا من الشاطئ مُلك للطبقة الغنية كما هو متوقع، وما هو دونها فهو للغلابة. عمارة المنطقة تأخذ طابعًا فريدًا كما لو كانت منازل موسمية هناك، أما في المنطقة الفقيرة فتأخذ شكل منزل يسكنه أصحابه على مدار السنة.
*
رغوة لزجة بُنية اللون تكثّفت وتجمّعت على دكة النافذة الخشبية التي رُصّت عليها عبوات الإستحمام والعناية الجسدية. كلها ملك للفتاة، عدا صابونة حمراء داكنة تجدها مرة على دكة المروش وأحيانًا على المرحاض. على الأرجح أن كلا الرجلين يستخدمانها.
*
المنطقة المعروفة برياحها العاتية أقعدتها عن النوم تلك الليلة. الضربات المتكررة على نوافذ الشرفة شكّلت إيقاعًا منع عنها النوم، ولمّا ظنّت أنها ستعتاد أخيرًا على هذا الإزعاج وتتمكّن من النوم، وجدت نفسها أكثر تنبهًا مع كل ضربة جديدة دقّت مسامعها.
*
على مشارف الصباح، تخلّصت من زوّار الليلة الممطرة. إذ تجمّعت عائلة من الحلزون على أركان نافذة الشرفة وستائرها بحثًا عن الدفء. قذفت بهم واحدًا واحدًا إلى الباحة الأمامية للمنزل التي ارتفعت فيها الأعشاب الضارة. علِق بعضهم على الأعشاب المتصاعدة وارتاح بعضهم على الأرض.
*
رائحة خشب الحمام باتت معتّقة غنية بعد الاستحمام اليومي المتكرر، ورائحة الرطوبة العفنة اختفت أخيراً. استوقفتها العجوز وهي تحمل كومة مناشف الحمام مُتّجهه للأسفل "ستغسلينها؟"، "لكن اليوم يوم أحد، نرتاح فيه باسم الرب".
*
من الشرفة، غطّى المنزل المقابل المنظر بأكمله إلا شيئًا من كنيسة إله الصخر والضوء الأخضر الذي اكتسى به الصليب على قمتها مُبدِداً ظُلمة المكان من حوله. في الصباح، سألت العجوز عن المنزل المقابل الذي غطّت الرسومات الصبيانية جدرانه. قالت إن أهله قد هجروه قبل عقودٍ مضت إثر خلافٍ على تقسيمه، ثم استطردت في القول إن ارتفاع المنزل المقابل غير مشروع، وإن بناءهم لدور إسمنتي على أساس من "الاستيل" يُعد مُخالفًا للقوانين.
*
قالت الجهة المعنية بالأمر إن التحدّث مع الورثة والتوصّل إلى حل معهم هو أمر مستحيل، لكنها قررت أن الموضوع يستحق العناء، كل شيء في سبيل الحصول على رؤية واضحة. واظبت على متابعة الأمر حتى آخر أيام الصيف.
*
تلوّت ألهبة النار وتلاعبت في الهواء كامرأةٍ غاوية أمام الشمس المرتمية في قلب المحيط، وتمازجت مع صفرتها في معركةٍ حامية أجّجتها الرياح وصعّدتها حتى ابتلعت المنزل المقابل. أفرج الصباح عن خرابة مُلقاة على أيدي المُحيط، أضفت على الحي طابع الهجر. من على الشرفة، ضربت أمواج المحيط الصخور التي ارتفعت عليها جدران الكنيسة.كسيوطٍ ساخطة. وبانت الطحالب التي غطّت الشاطئ وعلت أصوات النوارس وهي تخفق بجناحيها مُتفادية الرماد الذي أفرج عنه حطام المنزل المقابل الذي استوى في هذه اللحظة مع الأرض بينما يُراجع محقق الضمان أوراقه على أنقاضه استعدادًا لفتح التحقيق.
ولاء فهد الحربي، كاتبة سعودية مقيمة في مدريد. تكتب القصة القصيرة في عدة منصات أدبية. نشرت لها هيئة الأدب والنشر والترجمة السعودية عام 2022 قصة وثبة من على الشرفة من ضمن مجموعة قصصية بعنوان "قصص من السعودية".
حصلت القصة على جائزة قصص على الهواء التي تشرف عليها مجلة العربي بالتعاون مع إذاعة مونت كارلو الدولية. تُرجِمت قصصها إلى الإنجليزية والإسبانية. تكتب أحيانا في مدونتها قفزة في الفراغ.