قِرْط العصافير
نعيم آل مسافر
يتدلى بشكل غصن من أذن المانيكانة، في الصندوق الزجاجي لواجهة محل الصائغ، تتعلق به - بنسق غير منتظم - مجموعة عصافير ذهبية صغيرة، مرتبة بشكل تصاعدي، من قرب الكتف حتى شحمة الأذن.
قرطٌ ملفت لانتباه جميع المارات بشارع الصاغة، حيث لا تمتلك إحداهن إلا التوقف عنده وتأمله، وفي بعض الأحيان دخول المحل واقتناءه.
إلا أن الصائغ كان ينتظر امرأة بعينها، لم تأتِ بعد، فطبع ملصقات إعلانية، ووضعها على واجهة المحل، وأخرى في وسائل التواصل الاجتماعي، لزيادة الإقبال على الشراء. لعل صاحبة العنق الطويل - تلك - تسمع بالقرط وتربط بينه وبين ذكراهما القديمة، فتأتي إلى المحل لتتبين الأمر.
بعد ازدياد المبيعات بشكل مضطرد غير اسم محله إلى (صياغة مهوى القرط). وثبّتَ في المحكمة أن صناعة هذا القرط ماركة خاصة به، وأن كل صائغٍ يروم الإقدام على صناعة حلية ذهبية مشابهة، سيكون ملزمًا بأخذ ترخيص قانوني منه،تترتب عليه تبعات مالية.
المشكلة الوحيدة التي كانت تعاني منها أرقام المبيعات أن ذلك القرط يليق أكثر بذوات العنق الطويل فقط، لتكون المسافة بين الأذن والكتف كافية ليتدلى فيها. مما حدا بنساء المدينة من قصيرات العنق البحث في عيادات التجميل لتطويل أعناقهن، فظل منتهزو الفرص يحاولون ذلك، مستعينين بعيادات التجميل العالمية دون أن يتوصلوا لحل حتى أصبح حديث الساعة في المدينة، عن الموضة السائدة في مراكز التجميل لتستطيع النساء انتقاء القرط.
بعد محاولات عديدة عرفوا أن تلك العملية التجميلية مستحيلة! فأصبحوا يقصدونه لعله يجد حلاً لذلك الهوس الذي تسرب من نفوس النساء إليهم، كأن يقوم بتصغير حجم القرط أو تقصير طوله… يسمعهم فترتسم على وجهه ابتسامة غامضة لا تدل على فرح أو حزن أو أي معنى مفهوم بالنسبة لهم. ويجيب كل مرة، بأن طول العنق من مميزات الجمال الأصلية التي تزين القلائد والأقراط، لا أن تتزين بها هي. ولا يمكن لعباقرة التجميل التلاعب بها، فهي ليست الخدود والشفاه وغيرها التي جعلت أشكال النساء متشابهة.
وتستعيد ابتسامته الغامضة صورة القرط الذي صنعه أول مرة قبل أعوام لمانيكانته، عندما كانا زميلين في الجامعة. والذي استلهم صورته من صدر بيت شعري في درس البلاغة كشاهد للكناية عن المرأة طويلة العنق.
كان كلما التقاها في أروقة الجامعة أو حدائقها همس لها به: بعيدة مهوى القرط…
اعتادت سماعه، حتى أخبرته عن حزنها، حيث ستفتقد همسته تلك في العطلة الصيفية، فهي تسكن مدينةً بعيدةً عن مدينته.. عندها قدحت في ذهنه فكرة صناعة ذلك القرط وأهداه لها:
"هذه العصافير ستغرد لكِ كل صباح بدلاً عني…"
لم تحضر للكلية في العام الدراسي التالي، الذي أعقب أحداث عنف في البلاد إثر عودة الجيش مهزوماً في الحرب الأخيرة.
سأل زميلاتها فلم يحصل على جوابٍ شافٍ، سوى تكهنات واحتمالات بعودتها من عدمها. حيث اختفت مع أسرتها بالكامل، مع الأسر التي سِيقتْ إلى أماكن مجهولة، ولا يستطيع أحد التحدث بشأنها أو السؤال عنها.ظل ينتظرها حتى بعد تخرجه من الكلية، ورغم أنها لم تعد ولم يعرف عنها أية معلومة، إلا أن شعوراً داخلياً كان يقول له أنه سيلتقي بها يوماً ما.
انتقل إلى السكن في مدينتها، وافتتح محل صياغة الذهب.. ووضع جدولاً يومياً للتجوال في أحياء المدينة، لعله يلتقيها مصادفةً، أو يعرف عنها شيئاً. لكنه يعود من جولته اليومية إلى المحل مخذولاً، فيلجس منتظراً مقابل واجهته الزجاجية، محدقاً بذلك القرط، وكأنه يسمع عصافيره تغرد:
"بعيدة مهوى القرط…"
نعيم آل مسافر قاص وروائي عراقي صدر له حتى الآن ١٥ كتاب في الشعر والقصة القصيرة والمسرح والرواية وأدب الأطفال.