ولاء تكروني
تتصاعد الأبخرة إلى سقف الغرفة لتخلق غيمة ضبابية وخانقة من رذاذ بخاخات المثبت وبخار مجففات الشعر. حين رأت السيدة في الاستقبال شعري اختلجت على شفتيها ابتسامة ساخرة والتفتت لإحداهن التي بدت متبرمة من كون قدرها يحتم عليها التعامل مع لفيف شعري الغزير بعقده التي تضم بعضها في تشابك يفوق تشابك العشاق. إلى جانب لوني الداكن وملامحي وطولي أيضًا الذي ورثته عن عائلتي ذات الأصول الأفريقية.
كنت قد قسمت شعري لأربعة أقسام ومشطته أيضًا لعلني أتفادى كم التعليقات والنصائح التي لا تخلوا منها زيارة واحدة للمشغل، لكن الأمر لم ينجح هذه المرة أيضًا حيث علقت المصففة المستاءة بعد لحظات:
"شعرك جاف."
أومأت وسألتها،
"ما عندكم بلسم؟"
تنهدت،
" لا أقصد طبيعته."
أومأت مرة أخرى وعدت لهاتفي. كان ثمة سيدة تقف منذ عدة دقائق تنظر إلينا في ذهول. أظن أن ملامحها ما كانت لتختلف إلا قليلًا لو أن سفينة فضائية هبطت من السقف. كانت المصففة باللطف الكافي لأن تطلب منها الجلوس ولكن ليس باللطف الكافي لأن ترد على زميلتها التي همست ساخرة بأنه كان من الأفضل لو أنني عالجت "شعري هذا" كيميائيًا. في الواقع لا أظنني عرفت شعري الحقيقي سوى منذ سنوات قليلة حين تركت شعري ينمو على سجيته رغم اعتراض و سخرية العديد من صديقاتي وأفراد عائلتي وفعلت ذلك متأثرة بموجة واسعة في مواقع التواصل تدعو للاحتفاء بالشعر الطبيعي. قد يبدو غريبًا أن يكون الشعر بل و الطبيعي أيضًا محل احتفاء حيث أن الطبيعة في الأشياء تقتضي عادة القبول بها ولكن ليس في هذه الحالة على الأقل.
انتهى نصف شعري والمرأة تبدو مرهقة ولا ألومها على ذلك فلدي من غزارة الشعر ما يكفي لشخصين. طلبت منها أن ترتاح لكنها رفضت بلطف وأغمضت عيني بعدها وفكرت- رغم صعوبة ذلك مع هذا القدر من الشد والضوضاء- بدأت أستعيد صورًا في طفولتي ولا أذكر نفسي إلا طفلة في ضفائر بأشكال عديدة مختومة بربطات شعر زاهية جدًا مصيرها دومًا هو أن تضيع. تذكرت جدتي التي لم أرى شعرها المضفور إلا مرة واحدة وما لبثت تخفيه تحت طرحتها التي ترتديها دومًا وشعر أمي المصفف دومًا في كعكة للخلف يتضاعف حجمها في الأفراح والمناسبات. لا أحد حولي كان يترك شعره مسترسلًا. لا أحد في المنزل ويقينًا لا أحد في التلفاز وحتى حين يفعل الأطفال ذلك قد يصبحون محلًا للتوبيخ والسخرية. لكنني كنت أحب أوقات الاستحمام لذلك السبب فحين اقف في المرآة وفوق رأسي لفيف أسود يتدلى الماء منه ككريستالات ثرية عملاقة لكن تلك محض دقائق مختصرة قبل أن تدفنه والدتي في المنشفة لأسباب عديدة من بينها ألا أصاب بالبرد.
قطع حبل افكاري دخول امرأة عابسة يبدو أنها مديرة الصالون، سألت ساخطة:
"ما هذه الأشياء على الأرض؟"
وكانت بذلك تشير إلى شعري الذي يسقط عقدًا دائرية لا شعرًا مستقيمًا كالذي تعرفه ولما أوضحت لها المصففة ذلك غادرت وعلى وجهها ذات علامات الاستياء التي دخلت بها. كدنا ننتهي لحسن الحظ وعلقت المصففة بعد لحظات عن كون نوع شعري " يظلم" طوله الحقيقي ولأنني أعلم أن ذلك من المفترض أن يكون مديحًا تبسمت.
حين انتهينا أخيرًا، وضعت المصففة شبكًا مطاطيًا لحماية الشعر واتصلت وقتها والدتي معلنة عن قرب وصول الضيوف الذي سيكون من بينهم الزوج المحتمل الذي علي أن ألتقيه ولذا كانت هي من ألح علي بزيارة الصالون وكنت طوال النهار متصالحة مع تلك الفكرة ولكن في طريقي إلى المنزل شعرت بأني سئمت من رفض نفسي حتى في أبسط التفاصيل، وحين وصلت قلت لوالدتي المنشغلة بموجة الاستنفار في المطبخ انه لن يراني هكذا كل يوم. أخرست اعتراضي ذلك قائلة:
"اغتسلي وارتدي ملابسك."
فعلت، إلا أنني غسلت شعري أيضًا فعاد لحاله الطبيعي ليصفعها الذهول حين غادرت الحمام ولينفتح علي سيل من التوبيخ والشتائم لم أرد عليه سوى بما قلته لها سابقًا والدموع في عيني. أخرج الجدال أخواتي من غرفهن لتتولى إحداهن تهدئة امي وأخذتني الأخرى إلى الغرفة وكان آخر ما سمعته من أمي:
"من سيتزوجك وشكلك هكذا؟"
لم نتكلم أنا وأختي لوقت طويل لكنها تناولت المنشفة بعد صمت وجففت شعري قبل أن تضم أعلاه في ضفيرتين تاركة أغلبه مرسلًا كجناحي فراشة. أنهينا سائر التجهيزات و التقيت به لكنني بعد الذي سمعته من والدتي، لم أسمح لنفسي بأن أريده رغمًا عن طابعه المهذب وابتسامته الهادئة ووطنت نفسي فيما أراه يغادر أنه لن يعود أبدًا، لكنه فعل . والآن حينما أرى نفسي وابنتي في انعكاس المرآة وأنا أضفر لها ذات الجديلة التي كانت علي يوم لقاء والدها وأخبرها أن شعرها يشرق كأشعة الشمس و أجنحة الفراشات وتيجان الشجر وأرى على ملامحها زهوًا رائقًا وجميلًا، أشعر أنني بنيت لها زاوية من العالم تقر بجمال كل تفاصيلها وإن كانت تلك الزاوية هي قلبي.
ولاء تكروني كاتبة من مكة المكرمة وطبيبة في زمالة الطب الوقائي والصحة العامة. صدرت لها روايتين أراضي الناما و مريما و قصتان قصيرتان بعنوان "مرآة على الضفة الأخرى" والتي نشرت في العدد الأول من المجلة، و"غرفة تخص البؤس وحده" ضمن المشاركات المختارة لجائزة أدب العزلة ولها أيضًا عدد من المشاركات الشعرية في الأمسيات الثقافية.