عبدالعزيز دياب

"وداد أكرم نسيم…"
لم يبق إلا اسمها وانفلتت من الذاكرة، تركت مكانها بقعة زرقاء غامضة.
"وداد أكرم نسيم…"
ثلاثي، يكتنفه إيقاع وموسيقى، اكتشفت كلماته مكتوبة على زجاج المرآة، وضلفة الخزانة، وجداري الحجرة، وسيراميك الحمام، وسياج الشرفة، طازج كأنه كتب اليوم، بل كأنه كتب هذه الساعة، أو هذه اللحظة.
من صاحبة هذا الاسم الذي يفرض حضوره بقوة، حتى إنني وأنا في طريقي إلى مدرسة 16 مارس التي أعمل بها أوقفني بائع الجرائد، همس في أذني: "وداد أكرم نسيم."
هذا الرجل علاقتي به تبدأ من أول أن أقدم له ثمن الجرنال وتنتهى بأن يناولني إياه فأضعه في حقيبتي، ثم لماذا يهمس في أذني، هل يعتبر اسم "وداد أكرم نسيم" سرًا، كما أن البغيض، ولا ينبغي بأن أشير إلى أن الأخصائي الاجتماعي هو البغيض، أمسك بذراعي وأنا أمر أمام فصل 3/5، همس هو الآخر "وداد أكرم نسيم." كأنه سر، وختم هذا السر بضحكة ممجوجة تافهة وهو يلوي عنقه ككلب أجرب. أما ممرضة مستشفى السلام بعد أن ضربت الحقنة في إليتي ضربة فصيحة، همست هي الأخرى في أذني:
"وداد أكرم نسيم."
اكتفيت بذلك القدر من الأسرار وقلت علي الآن أن أبدأ رحلة البحث عن "وداد أكرم نسيم." أنهيت حصة الجغرافيا التي دارت حول سؤال واحد:
"من منكم يا طلاب العلم يستطيع أن يخبرنا بموقع مقهى "أفندينا" على الخريطة؟"
المقهى الذي عرف تشردي وأنا في أقحوانة شبابي.
أفندينا مات وترك ولده البرنس يدير المقهى، فتح كراسة قديمة متهالكة أمام وجهي، كان الاسم فقط مكتوبًا في بياض الصفحة "وداد أكرم نسيم."
سألت:
"هل كان لأفندينا رفيق ما زال يرتع في هذه الدنيا الغرورة؟"
أشار "البرنس" إلى العجوز الجالس أمام طاولة تحط على حافة مصرف. عَجِزَ طلاب العلم أن يحددوا موقع مقهى "فندينا" على الخارطة بأن مصرفًا يحده شمالا، وبركة زفت خَلَّفَها ميكانيكي السيارات جنوبًا، ومحل مبيدات حشرية ضمن بيت صغير من طابقين شرقًا، وجراش أتوبيسات شركة النقل العام غربًا.
العجوز على حافة المصرف ما إن استوعب أنني أحدثه عن "وداد أكرم نسيم"، حتى ضحك. ضحك بملء فيه الخالي من الأسنان، وارتشف من قهوته، وهز رأسه ثلاثًا، وهرش أنفه، وخبط بكفه على الطاولة، وحدثني عن عينيها.
الآن أصبحت لوداد أكرم نسيم عينان.
"من منكم يا طلاب العلم يعرف أين يقع بيت أبلة أميرة على الخريطة؟"
أبلة أميرة أمينة المكتبة، استقبلتني أمام باب بيتها، همست في أذني:
"وداد أكرم نسيم"
ووصفت لي شفتيها.
أصبحت لوداد أكرم نسيم عينان وشفتان، عرفت كذلك من مُدَرّسَة الرسم وصف أنفها، ومن بائع البطاطا عند ناصية الشارع وصف شعرها، ومن صاحب بقالة "الأمانة" وصف ذقنها، ....
رسمتها عندما اكتملت ملامحها، اكتشفت أنني إلى هذه اللحظة لا أعرف عنها أي شيء. وضعت صورتها بحجم كبير في مواجهة باب الشقة، وكل من يسألني، يكفي أن أخبره بأنها "وداد أكرم نسيم."
هي "وداد أكرم نسيم" وكفى إلى أن أبدأ رحلة جديدة للبحث عن حكايتها.


عبدالعزيز دياب، أديب مصري، حصل على العديد من الجوائز الأدبية. من إصداراته الروائية: "رقصة مازوربا"، "صبيحة تخرج من البحر"، "باب البحر"، وله "عددًا من المجموعات القصصية، منها: "ساعة حضور بورخيس"، "ضرورة الساكسفون"، و "رسم الريح.