top of page

رؤى

محمد الأحمدي

الناشر: دار حكاية
الإصدار: 2024م
(1)

أقلّب عود الثقاب بين أصابعي، وفي لحظة صفاء أراني أحرق الشركة عن آخرها. رأسٌ كبريتي أحمر كغضبي. لهيبٌ مهيب يبتلع المكان. عويل جهاز الإنذار. أصوات الفرقعة المرعبة داخل طبلون الكهرباء. كل شيءٍ يصبح لزجًا وأسود ويذوب على نفسه. شاشات دِل الجديدة. ومودم الإنترنت الجديد. ومكاتب إيكيا بلون البلوط التي نجلس حولها للاجتماع الأسبوعي. ليتَ نارًا واحدة تضرم فيها فتبتلعها كلها. ليس لزملائي علاقةٌ بالنار، لا أريد سوى تخليص نفسي.
أنظر إلى مواقف الشركة من النافذة المغلقة. حريق. هذا الحل الوحيد. لو تستمر لحظة الصفاء هذه أكثر من دقائق قليلة لا تكفي للالتزام بأي قرار. ليتني أستطيع انتزاع نفسي من قلب الدوامة. عسى عيني ترى شركة تواصل على حقيقتها. لعلّي أرى نفسي على حقيقتها.
"أستاذ نادر؟"
دخل عميلي إلى المكالمة فحلقت الأفكار الواضحة وتركت الريش يتساقط مغطيًا رؤيتي.
أسمعك، أنت تسمعني؟
"مشوش."
والآن؟
"ما هو المأمول، لكن فيه تحسّن. خلاص كمّل يمكن الجودة تتحسن."
ما يتحسّن شيء لكنك تتعود.
رصصت السماعات في أذني استعدادًا. أمام عيني ملف العميل المليء بالمعلومات عنه وعن زوجته. ملاحظاته مصدري الوحيد في كتابة هذا الملف لذا أرجو أنه ذكيٌ ملاحظ فيما يخص علاقتهما.
سالم السالم. اسمك مزعج وغريب. واسم زوجتك يفوق اسمك غرابة، لم أسمع بامرأة اسمها غزالة قط. يا لها من مصادفة تلك التي تجمع شخصين باسمين غريبين. لا بأس. لن تحرمانني من هذه الرحلة الممتعة.
أنا مستعدٌ للملحمة القادمة. أرجو أن تصغي لما أقول وتكرره دون بلاهة. وألا تكون من أولئك العملاء الذين تصيب أدمغتهم لوثة غباء وقت الاتصال رغم بساطة الأمر: كل ما عليك هو ترديد ما سأقول وكأنك قائله.
أسمع صوت الباب فأسأل غير آبهٍ ببديهية السؤال:
جات؟
سرعان ما ألتمس الجواب من صوتٍ أنثوي يسلّم بالفصحى. أمسك قلمي وأظلل جملة اقتبستها من زوجها عنها "ما تتكلم إلا بعربية فصحى، ولا عمري سمعت كلام عامي أو أجنبي يخالط لسانها أبدًا".
تنطلق سيارته وأستعد للانطلاق معهما.
أنقر على السماعة مرتين، فيشيّد حولي جدارٌ من العوازل السمعية يسد أصوات موظفي المكتب. أتنحنح مرتين ممرنًا حلقي على اختلاق الحقيقة. أشعر بموجة أدرينالين تكبر داخلي. أغمض عيني تاركًا الأدرينالين يغمرني. أحرّك كتفي حركة دائرية، كرياضي يستعد لرفع أوزان ثقيلة. وأنتظر الإشارة التي اتفقنا عليها.
"كيف حالِك؟"
"في نعمةٍ عظيمة وكربٍ أعظم، وأنتْ.. كيفَ حالُك؟"
"حمدلله"
محادثةٌ مريبة أشم رائحة الكهرباء تشحنها، يتبعها صمتٌ تام وترقّب التماس. وأنا بينهما استرق السمع دون التحول إلى شهابٍ يصير رمادًا؛ فسوى السماعات في أذن عميلي الجالس في سيارته.. لا دليل على وجودي.
يرتفع صوت حفيف الهواء فجأة، من يفتح النافذة في هذا الوقت من الشتاء؟
يا طيبة، يا طيبة، يا دوا العيّانا.
أردد الأنشودة في سري. يا ترى هل جلبت هاتف يا طيبة معي من بيتنا؟ آخر ما أتذكره هو انبهاري لما قذفته في الجدار ولم ينكسر. أكان ذاك الجدار جدار بيتنا أو جدار شقتي؟
تخيب ذاكرتي ويقاطعني صوت ما عن محاولة استرجاع الذكرى. صوتٌ مألوف.. صوت خطير.. أشبه بنقرة على نافذة، أو سقوط شيء من مكان مرتفع، هل سقطت سماعة عميلي الأبله؟ لا..
في معدتي حدس يحرقني، معقول؟
متأكد أني سمعت صوت تلقيم مسدس.
في اللحظة نفسها تهرب من أنفي نخرة. هل يرضي الزوج زوجته بمسدسٍ على رأسها يا أ. نادر؟ ثم ماذا؟ يخطفها؟ ما أمارات القلق هذه على وجهك؟ فكّر بمنطقية، علّه كان صوتًا مشابهًا، وما أدراك أنت؟ هل أصبحت خبيرًا بأصوات الأسلحة فجأة يا من أخرج تصريحًا لمسدسٍ لم يستخدمه قط؟
أسمع صوتًا معقولًا أكثر، صوتَ تنخم زوجته. طبعًا! ماذا يتوقع من يفتح النافذة في هذا الوقت من الشتاء؟
بقر.
يطول تنخمها ثم تتبعه نوبة سعال. لم يكن تنخّم زكام بل بكاء. أسمع نحيبها المكتوم، متبوعًا بتأسفها. أظلل "ساذجة" في الملف. أمعقول أن تكون ساذجة حد الاعتذار عن بكائها؟ يا ليتني معهم في السيارة لأرى هذا المخلوق العجيب.
تصل الإشارة أخيرًا.
"خلينا ندخل في الموضوع مباشرة."
أقوّس ظهري وأفرقع أصابعي وأتنحنح بخفوت ثم أغمض عيني وأراجع المعلومات التي أعرفها عنهما.
أنا في مكتبي، وعميلي في سيارته رفقة زوجته، تفصل بيننا عشرات الكيلومترات لا تستطيع صدي عن الولوج إلى حياته كهاكر يخترق حاسوب.
أهمس:
أنا أعرف خطأي.
ويردد خلفي معيدًا توجيه كلامي:
"أنا أعرف خطأي."
أترك صمتًا محسوبًا يملأ المحادثة وأتخيّل الموقف كروائي على وشك تشييد عالمه. درس الإقناع الأول: الصمت في المحادثات هو صديقك؛ بل هو ليس عدوًا إلا للكاذب، فلا تخف من لحظات الصمت في أي محادثة.
وأما أنفع الصمت فهو المحسوب، وحسب خبرتي واختباراتي، صمتك لمدة ثلاث ثوانٍ يأتي بأفضل النتائج. مضت ثانيتان وبقيت واحدة، فاستغلها في تخيّلها. أتخيلها كما وصفها. تجلس عن يمينه صغيرة لا تملأ المقعد. وجهها دائري ممتلئ مبتسم بطبيعته، وتحب التربع فوق كرسي السيارة.
أكمل بعد مرور الوقت المحسوب:
"ووالله ما أحاول اختبئ خلف أي عذر نهائيًا!"
أحاكي شخصيتها. لو كنت غزالة، سأرى هذا الاعتراف الصغير كعنوان بريد إلكتروني جذّاب، وسيثير اهتمامي لمعرفة المزيد. حتى الآن نسير على الطريق المستقيم. أفرد إبهامي، فسبابتي، فالوسطى، بمعدل ثانيةٍ لكل فردة إصبع. صمتٌ محسوب. وبعينين مقفلتين تبصران العالم كله أملأ متن رسالتي.
"لكن جيلي يختلف عن جيلك كثيرًا."
أشعر الآن بأني استلمت دفة القيادة وكأني تلبّست الرجل. أحدثها ولا أحتاج من الخيال إلا قليله. قفزت داخل عالمهما كأني في رواية بديعة التصوير. تشبيه أدبي آخر. جميل. لا تغتر وركّز. يندمج صوتانا، أنا والعميل سالم، رغم أنه متأخرٌ عني بطبيعة حال التلقين.
"وهذا ما هو عذر، بس أتمنى تفهمين سياق الخطأ."
يرقُّ صوتي، ويسقط رأسي، ويرتفع حاجباي، وتلمع عيناي ونكمل:
"أمي انضربت وصبرت. وأبوي ما كان رجل بطّال لكن..."
"يارا شهدت كل شيء!"
تستعمل سكوتها لتلملم نفسها وتحارب دموعها قبل أن تكمل:
"سألتني ماما ليه بابا عوّرك لما تصارعتم؟"
تسلل إلى أذني صوت زفيرٍ عميق لم أميز من أي رئةٍ خرج، وتشتتّ انتباهي لفكرة حديث طفلة بعربية فصحى تتخللها مفرداتٌ عامية. لم يفاجئني اعتراضها، فعميلي توقعه، بل أنا متجهزٌ له.
أكمَلت ذاهلة.
"أُضرَب أمام بنتي..."
تحدثت في شرود وكأنها تعرض الموقف لا تعترض عليه. نحاكي، أنا وسالم، شعور إحراجٍ ومروءة:
"تنقص اليد الممدودة عليك قبل ما ترجع لمكانها!"
"تُقَص يدك؟"
"قبل أي يد ثانية."
صمت، فنحيب مكتوم. أمط شفتي السفلية لتغطي العلوية وأمرر سبابتي تحت عيني اليسرى لأرسم خطًا خياليًا من الدموع. سرعان ما يؤنبني ضميري على سخريتي. تمضي الثلاث ثوانٍ.
حان وقت رفع منسوب الدراما.
"غزالة، يا حبيبتي، أنا آسف والله. وهذه وصمة عار تبقى معي لين أموت. وأعترف أن هربي المستمر سبب مشاكلنا. لكن دام المصيبة حصلت، والقلوب تحن لبعض، أحسن نتشارك الحزن بدل ما كل واحد فينا يحمل همه لحاله."
"في حياتي ما سمعتك تتحدث بهذا اللسان."
أح. تغادرني ملامح حزني المزيفة ويحل محلها قلق حقيقي.
"صارحني."
تتسع حدقتاي، يُعقد حاجباي، ويركض قلبي. تلك الجملة الوحيدة التي لم أكن متأكدًا منها. ليتني أسمعت رؤى هذه الجملة لأمنع رحيلها عوضًا عن إقحام حياتي فيما ألقنه لعميلي. يبدو أن زوجته شمّت رائحة امرأة أخرى. تفصدت نقطتا عرق على صدغي وقفزت لتغوص في محيط حجري.
مهلًا..
الجملة شاعرية كأنها من تأليف المنفلوطي، كاتبها المفضل، ومناسبة لشخصيتها العاطفية سهلة التأثر. هل أخطأ سالم في تفسير شخصية زوجته أو في تحديد كاتبها المفضل؟ الاحتمال الثاني كارثي أكثر..
أكمَلت بعربية تزداد مسرحيةً:
"هل لقنك أحدٌ هذا الكلام، أو سهرت الليالي تجهزه، أو عذبك الشوق حد تسللك لمكتبي وقراءة المنفلوطي؟"
هل يعقل أن حدسي خذلني أم عاد قلقي يتلاعب بي؟ خمسمئة مليون كاتب ينصحون بالاعتماد على الحدس، عساكم مبسوطين الآن الله يحرقكم؟
بعد لحظاتٍ من السكون تشاركا في ضحكةٍ متناغمة. أشعر أني معمي عما يحدث بينهما. تراقص صوتها الطفولي العالي حول ضحكته الخافتة وانسجما. يرتاح قلبي للحظة وأجر نفسًا من قعر صدري.
ثم أذكرها.. وأذكرنا.
أحدّق في الشاشة السوداء أمامي. لا أرى انعكاس وجهي فيها؛ أرى طيف رؤى يتشكل فأشيح عنه. يتعسني اقتناع زوجته. كيف ترضى بكلامٍ قصِد لامرأة أخرى؟ ما هذا الخبال؟ ألا تحترم نفسها، يضربها أمام ابنتها ويراضيها بكلامٍ قُصِد لغيرها فتقنع؟
وحينها تظهر أمامي من كانت هذه الكلمات لها.
تريني ذاكرة عيني الشعر الأسود الحريري الناعم، والبشرة القمرية، وخط التجاعيد حول الشفاه، والضحكة المجلجلة القبيحة الأقرب لقلبي من ألف ضحكة أنثوية..
سعل العميل في الخط الثاني فأخرجني من الحالة التي تلبستني.
أراقب وجهي. ما هذه القسمات الغريبة على وجهك يا نادر وكيف تشكلّت دون إذنك؟ كانت شفتاي تصل إلى عينيّ وعينيّ كالقلوب، وعيون القلوب تعبيرٌ آخر من تعبيرات رؤى. أنظر حولي لأتأكد أن لا أحد من الموظفين في الغرفة المشتركة التقطني في تلك اللحظة البلهاء المتكشفة.
تنحنح العميل مجددًا.. يا ساتر العميل!
"آآ- ايوه. أثرتِ عليّ يا غزالة عمري، صرت لمّا أنام أضع ماجدة لين في حضني."
"ماجدولين."
"هاه؟"
"الرواية.. اسم الرواية ماجدولين، أو تحت ظلال الزيزفون."
أطلَقت ضحكة قصيرة خجولة. تخيلتها تضع يدها أمام شفتيها لتخفي أسنانًا شديدة البياض عندما تضحك.
"طمأنك ربك. بما أنك أخطأت في الاسم فأنت زوجي الذي أعرف."
أهز رأسي ببطء وابتسم، ابتلعت السمكة الطعم. لم يخطئ زوجها في تشخيصها، بل وصفها بدقة كاتب. وكأنه سبر أغوار شخصيتها. وأما أنتِ فنعم انظري له يا غزالته، يقول ماجدة لين، زوجك الذي رغم جهله بالأدب ما زال يلهث خلف رضاك. أليس هذا الجهد دليلٌ دامغ على خروج الكلمات من صميم قلبه؟
ماجدة لين.. خطأ جهنمي مقصود يثبت أني مهندسٌ عبقري وساحرٌ لماح. أني ألمع مدير تواصل في الكون. مثل هذه الدروس لا تُعلّم ومثل هذه النتائج لا يستطيع تقديمها سواي.
أتربّع على الكرسي وأترك الرجل بلا جوابٍ لوهلة محسوبة، تقاطع زوجته بلهفة ثواني الصمت الثلاث:
"وبعدين أذبحك تحط أحد في حضنك!"
اشم رائحة النجاح، فأنقض بأنيابي ومخالبي:
اضحك!
أهمس في أذنه، فيمتثل بضحكةٍ خافتة عميقة بالكاد تُسمَع. قلنا أنا وعميلي العزيز.
"والله لو أحط عشرين ماجدة لين في كفة وغزالتي في كفة إنك تطيريهم في السماء كأن الأرض بلا جاذبية."
سار كلامي من عقلي إلى شفتي، ومن شفتي إلى أذنه، ومن أذنه إلى شفته، ثم إلى مسامع زوجته، بسلاسةٍ عجيبة. ما أنطق بكلمة حتى تجد طريقها إلى أذنيها بالحرف الواحد والإيقاع ذاته.
"ولو تحط واحد وعشرين ماجدولين؟"
"ولو أحط واحد وعشرين مليون وفوقهم واحد وعشرون مليون منفلوطي."
"طيّب لو اثنين وعشرين مليون؟"
"بوّسها!"
لا أسمع ردًا ولا قبلة فأتوسل إليه بعصبية أمٍ تريد إخفاء غضبها على ابنتها عن ضيوفها:
"بوّس يدها ورأسها، خذ رأسها في صدرك، بسرعة، والله راح أقفل السماعات."
أبقي السماعات شغّالة. لم أكذب، ولو أقفلتها لأسمعني خيالي الصوت نفسه، فما الفرق؟
زوجته الحبيبة شرّعت له الأبواب فالدلال والسخط لا يجتمعان في امرأة. ضمها إليه، وقبّلها، ولما تناهت لي الضحكات الممزوجة بغنجٍ وتمنّع أدركت أن المهمة نجحت. حميت أسرة جديدة من التفكك. جمعت رأسين بالحلال.
"أحبك."
رديت:
وأنا أحبك أضعاف وأضعاف!
ولكنه اختار جملة تعيسة أرجو ألا تفسد كل ما زرعناه في النصف ساعة الماضية.
"وأنا.. وأنا بعد والله!"
الرجل الخجول فضّل هذه الجملة الباردة الباهتة على نطق أحبك في حضور غريبٍ يتسمع. رغم اختياره تكشّفت لي مشاعره للمرة الأولى في لحظة رده، كان صوته مضطربًا وعاريًا وفيه شيءٌ أقرب إلى التضرّع:
"يلّا نجيب يارا ونرجع بيتنا؟"
نطق الجملة التي اتفقنا عليها لإنهاء الخدمة. خلّصنا. يعودان إلى ابنتهما، وأعود إلى مهامي. عميلٌ آخر في طابور الانتظار الآن، قبل أن أنهي المكالمة حتى. عملاء اليوم كثُر، ولكن لا بأس عندي غراء يكفي كل الأسر المتفككة.
انشغل عن إقفال المكالمة برفع رأسي إلى ورقة بيت الشعر الملتصقة بالزجاج فوق جهازي.
وإني وأن كنت الأخير زمانه لأتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ
أنقر الورقة بأصبعي. أرتعش بنشوتي. أحلّق فوق كرسيّ.
إلى اللقاء يا سالم، نراك على خير، قريبًا على الأغلب، بعد صفعةٍ أو نطحة.
سوق خدمة التواصل يعتمد على عودة العملاء، فكل زوجٍ يعرف أن ضرب الزوجة، وخيانتها، وتجريحها بالكلام عمل مشين. وليست تلك الأفعال تفضيلًا شخصيًا عند بعض الإناث دون بعضهن، أو درسًا تغيّب عن حضوره بعض الذكور. لكن إزالة الجبال أسهل من إزالة العادات. لذا مصيرك العودة لي. عندما يزول مفعول الغراء وتظهر التصدعات على السطح.
يقشعرّ جسدي نشوةً. أستطيع حل مشكلات العائلات كلها، وحينما تعود المشاكل للظهور أعود لحلها. خلقت دائرة مثالية ودخلت أركض فيها كما يحلو لي. لا بأس لو اصطفت الأسر كلها خارج مكتبي، حيّاهم! بالعكس، زيادة العمل تعني قل التفكير وقل التفكير يعني أسئلة أقل ولا أعوز لي من تخفيف الأسئلة.
سارت العملية على أكمل وجه ولم يتبقَ إلا استلام بقية المبلغ من العميل. أقفلت العوازل الصوتية، وعدت أسمع ضجة المكتب، وخرجت من جو المصلح الأسري. وضعت يدي على السماعة لأقفل المكالمة.
ثم قالت:
"لا أدري."
"ما تدرين؟"
تصرّف سالم من تلقاء نفسه، ففتحت فمي لأنبهه بوجودي واستطاعتي مساعدته، حتى ارتجالًا لا تختلف قواعد التواصل. إلا أن شللًا أصابني، مثلما تعجز عن الحركة عندما ترى كلبًا مسعورًا يركض تجاهك وتدرك فوات أوان الهرب.
"أحتاج أستشير ماما خلود."
"ليه؟"
رغم هدوء صوته إلا أن في نبرته استنكار أب على وشك الانفجار. أسمع أصوات تنفسه ساخنة. هو يتنفس بعمق. يطرق. هي تشهق شهقة وأخرى وثالثة. وأنا بينهما أترقب وأحارب رغبة ملحة بقضم أظافري.
"أمك؟ أنا متزوج أمك؟ ذيك النسرة هي سبب كل مصايبنا."
"عيب!"
"العيب تصرف الحرمة كذا. كل ما قلت لك كلمة تركضين لأمك راعية المشاكل. لازم ترجعين. هذا بيتك. يارا مشتاقة لأبوها."
"يارا رأتك تقذفني بالحذاء!"
"وأمك لو فيها خير ما تطلقت."
صمت. ثم نحيب مكتوم كالذي بدَأت به. أما عند هذه المرأة غير البكاء؟
"تبغينا نلجأ للمحاكم؟"
يحافظ صوته على هدوء من يناجي نفسه، أو يهمس في أذني محبوبه بأعذب الكلمات، حتى الاستنكار الأولي اختفى. رغم صراخها وبكائها لم يرفع صوته، هل يهتم أصلًا إن كانت تسمعه؟
"ما عندك غير الصياح؟ كل ما صار شيء صحتي؟ الله يلعنك ويلعن أمك. أنا أعرف كيف أتصرف معك."
أسمع صوت محرك المركبة متبوعًا بتوسلاتها. يعتريني توترٌ تتخلله حماسة، كذاك الشعور الذي يسيطر عليك حينما تصعد قطار الموت وتظن للحظة أنك قد تموت حقًا. بهدوءٍ طلب منها:
"اتركيني."
ردت تصرخ:
"أعطني يدك أرجوك!"
شد وجذب. تهديد. بكاءٌ لم يعد مكتومًا. تمييز الأصوات والكلمات مستحيل. ارتفع صوتها حتى ظننت أن أذني ستُدمى. كان صراخها غريبًا، بُّح صوتها بعويلٍ أقرب إلى التوسل وطلب المغفرة.
أود إغلاق المكالمة، لا يشبه السماع عن المشاكل العائلية سماع المشاكل العائلية. رأيت رؤى في ذلك المنظر وضاق نفسي.
رغم هذا تتملكني رغبةٌ محظورةٌ بالبقاء، جزئيًا لأن التوتر كان مشوقًا كحادث سيارة، ولأني فهمت سالم.
ثم دوت طلقة. تبعها صمتٌ مطبق.
طلقة؟
مسدس!
تنفّس.
تنفّس!
تنفّس الله يحرقك!
تنفّس يا نادر الله يحفظ أمك.
شهيق، زفير. شهيق زفير. شهيق زفير!
لا فائدة، أضربت رئتي عن العمل. جلست في غرفةٍ تتكدس فيها أجساد الموظفين وترتفع فيها أصواتهم دون القدرة على رؤية شيء غير جثةٍ تنزف ولا سماع شيء غير الطلقة التي يتكرر دويها في رأسي كطنين مستمر.
"أنت هنا؟"
يأتي صوته هادئًا وكأنه يسألني إن أردت خدمة. أحبس أنفاسي وأحاول كتم ضربات قلبي.
"تسمعني؟"
أفقد السيطرة على ضجيج قلبي. أضع يمناي فوقه، وراحة يسراي فوق يمناي. ما زال يخفق بالعنف ذاته. أبلع ريقي فيتوقف الماء في منتصف حلقي. أحس بالعرق باردًا وبجسدي يرتعش ساخنًا.
"معي على الخط أستاذ نادر؟"
"أخصمك آه، أسيبك لا"
رن جوالي الخاص، كانت أمي المتصلة.
في حياتها لم تتصل علي وقت الدوام، وأقسم بالله أني وضعته على الصامت. أترك النغمة ترن وترن حتى تقول نانسي "وجوّا الروح..." تعود سيطرتي على أطرافي، وأعود للواقع منقضًا على الهاتف وأغلق المكالمتين.
لعنك الله يا عادل، أنت ونغمتك وتحديّك، وسامحك الله يا نانسي.
غرقت في كرسيي حتى وقت الغداء. يدور الكل من حولي وأنا صنم ثابت. كل حواسي فُقِدت عدا البصر. أنظر لكل شيء، الزجاج الذي علقت عليه بيت شعر المعرّي، الأشباح خلف زجاج المكتب، المستقبل والماضي والحاضر، أمي ورؤى، سالم وزوجته غزالة، أنظر لكل الناس ولا أراهم.
حدجت زملائي بنظرات شك، انتظرت إعلان مقلب لم يعلنه أحد.
أكان صوت طلقة؟ ربما صفعها فقط.
هل ماتت؟ بكاؤها كان صامتًا طول المكالمة، لعل الصفعة أسكتتها.
هل أسأل عادل عن سالم السالم؟ "العميل هذا معرفة وتراه واصل، توصى به."
هل أذهب للشرطة؟ لا نملك تصريح التنصت على المكالمات.
تكاثرت الأسئلة كالأرانب إلى أن قرّبت ساقي من صدري واحتضنتها.
ليت رؤى هنا.



محمد الأحمدي راوي قصص وصانع محتوى أدبي في مواقع التواصل الاجتماعي باسم: محمد يكتب. روائي وكاتب قصة قصيرة ومقالات وغيرها. شارك بالكتابة والتحرير في المجموعة القصصية "الساردون الجدد". ينشر القصص والتدوينات في موقعه الإلكتروني: محمد يكتب.

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2025. جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page