top of page

الرجل القصير

إي بي وايت
ترجمة: فاطمة الحارثي




ما بعد حديقة منزلي، يرتفع الطوب الأحمر لخلفية عمائر الشقق السكنية بسلالم الحريق والشرفات الصغيرة، والنوافذ، والناس خلف النوافذ، وأصص الورود على حواف النوافذ، وبالأعلى قطعة صغيرة من السماء. الأشياء لا تتغير كثيرا هنا إن كنت مقابلا لخلفية العمائر السكنية، فالحدائق محاطة بأسوار عالية، والمشهد يبقى كما هو. ففي الدور الأرضي وبقرب النافذة، يجلس الرجل القصير كعادته على مكتبه يرسم. التربة الجافة العارية في حديقته مثل كعكة قمح مهملة. لم يعر اهتماما للنباتات الضخمة المتسلقة التي نبتت في حديقته وبدأت بتسلق أسلاك الهاتف. أغلب الظن أنه لا يعلم أن هذه النباتات المليئة بالغبار تتسلق بسرعة حتى تصل إلى نافذة الطابق الثالث حيث الغرفة التي تعيش فيها فتاة كالزهرة. يقضي الرجل القصير كل وقته في رسم فتيات طويلات ونحيفات لإعلانات متاجر الأزياء، ولأن الحديقة يسكنها كلب أسود شرس، فإنه لن يسمح للرجل أن يقرب الحديقة كي يعاين النباتات المتعلقة المتطفلة على الفتاة.

يأتي من النافذة الثانية على اليمين، في الدور الأول صوت عزف بيانو كصوت أربجيات حزينة لمتدرب لا تراه الأعين. مقطوعاته الموسيقية لا تتغير كثيرًا فهي حزينة في أيام الريح والمطر، وحزينة أيضًا عندما تملأ الشمس الذهبية الحدائق. أشعر أحيانًا أنه بسبب هذه الموسيقى الحزينة ترتجف شجرة السماء الموجودة في أول حديقة على اليسار.

أحيانًا، يأتي القمر في الفتحة الصغيرة للسماء، لكني لا أرى أن ذلك يحدث أي فرق في هذه البقعة. كل ما يفعله هو أنه يحدث تأثيرًا مغايرًا دون أن يغير أي شيء، فالإضاءات تشعل النوافذ والكلب الأسود يبقى متيقظًا للقطة المالطية والتي نسيت أن أذكرها، لكنها ظلت لعدة أشهر تمشي بثقة على حافة السور العلوية مبتعدة بالكاد عن قفزات الكلب الأسود. الرجل القصير يرسم. النبات المتعلق يمتص قوة من التربة الجافة. عزف البيانو يستمر. شجرة السماء ترتجف، والفتاة تظهر من خلف الستائر الرقيقة والنافذة المضيئة، وجسدها مثل زهرة تنمو في مستنقع. يا للجمال!
قلت أن الأشياء لا تتغير كثيرًا هنا، لكن مهلًا.

بالأمس وبينما كنت أتأمل فتحة السماء الصغيرة، إذ فتحت نافذة الطابق الأرضي بهدوء وأطل الرجل القصير برأسه. كان السكون يغشى هذا الجزء من العالم. لم يبدأ عزف البيانو، والكلب الأسود كان نائمًا في الحديقة ويظهر بوضوح تحت ضوء القمر، وشجرة السماء ليس لديها ما يحزنها وظلها بأوراقها النحيلة على جدار الطوب كان ساكنًَا.
تسلق النبات للأعلى بلا توقف وكأنه ثعبان أسود. اختفت القطة، وفعلا لم أر المكان مثل هكذا من قبل. الرجل الضئيل لم يحدث أي صوت. كل مافعله هو أنه ألقى برأسه خارجًا حتى لمس القمر صلعته وصيرها هالة فضية. أمسك بلوح الرسم تحت ذراعه وبالرغم من أنه لم يكن مرتديا ملابس السفر، لكنه بدا وكأنه مقبل على رحلة عظيمة. قفز بخفة على أعلى السور وركض بسرعة لنهايته وبيده قلم تلوين شمعي. أسفل السور كان الكلب نائما. ناداه:
"هي يا كلب"
وبسبعة حركات سريعة بقلم التلوين الشمعي رسم قطة مالطية، ثم ركزها على الجدار. استيقظ الكلب وبدا راضيا بالرسمة حيث انقض نحوها فورًا ولازال يحاول القفز والنيل منها كعادته منذ أشهر كما أخبرتكم. بعد أن أشغل الكلب، قفز الرجل القصير إلى الحديقة وأمسك بالنبات المتعلق وسحب نفسه للأعلى يدًا بيد وبدا قويا بمافيه الكفاية لتسلقها. عندما وصل للنافذة الثانية على اليمين بالطابق الأول، توقف لبرهة.
"هي" قال وأشار بإبهامه، وابتدأ عزف البيانو على أنامل سيدة لم يسبق أن كان لها أي عشيق. رأيتها لأول مرة في حياتي. كانت ترتدي فستانا أسودًا ويبدو أنها صاحبة القطة المالطية حيث أنها كانت تجلس فوقها وتقلب صفحات النوتة الموسيقية بذيلها. لم تكن أرپيجيات، بل تناغمات بذخة من سيمفونيات رائعة أتت عبر النافذة. لم أسمع موسيقى بيانو أفضل منها في حياتي. شجرة السماء تأثرت بشكل واضح بالتنهدات و الارتجافات. بمجرد سماع الموسيقى، استأنف الرجل القصير صعوده، وتسلق بسرعة وبراعة. الكلب استمر في القفز باتجاه رسمة القطة وقفز بسرعة ولكن ليس بعلو كافٍ. النبتة المعلقة، كما تعلمون، تنتهي عند نافذة الفتاة التي تشبه الزهرة. وبمجرد رؤيتي الرجل القصير يتسلق طابقا تلو الآخر، انتفضت وأصبح قلبي يدق بحماس لهذا التغير المفاجئ في العالم. الأصوات العالية أصبحت أكثر ضجيجًا، والأشياء السريعة أصبحت أكثر سرعة. تضخم البيانو لأصوات غير معقولة. الكلب قفز قفزات مستحيلة ولكن ليست عالية بما فيه الكفاية. الشجرة اهتزت بعنف حتى أن عددا من الأوراق انفصلت وسقطت على الحديقة الثانية إلى اليسار. القطة فوق البيانو حركت ذيلها وقلبت صفحات النوتة الموسيقية بسرعة فائقة مما لم يمكن أحدا من رؤية المقطوعات، وفي مساحة من السماء فوق الكل، سطع القمر بقوة.
عندما وصل الرجل القصير لأعلى النبات المتسلق، فتح النافذة ودخل من خلالها وبكل جرأة قام بتقبيل الفتاة. كان مشهدًا لا يمكن تفويته خصوصا مع صوت الموسيقى الباذخ وقفز الكلب ونفض الشجرة لأوراقها الصفراء على ضوء القمر. كانت قبلة جديرة بالمشاهدة. عندما نزل بعد بضع دقائق، كان هناك بعض غبار النبتة على بنطاله، والدائرة الصلعاء على رأسه تغير لونها لشدة اقترابه من ضوء القمر، وعينيه فيهما بريق.
وعندما استيقظت هذا الصباح بحمى وألم في الحلق، لم أهتم كثيرًا كوني مريضًا. كل ما فعلت أنني نظرت من نافذتي الخلفية ورأيت الرجل القصير كعادته لا يزال يرسم صورا لفتيات نحيلات رفيعات الطول لإعلانات متاجر الملابس.

إي. بي. وايت (١٨٩٩-١٩٨٥) هو كاتب أمريكي وكان يعمل ضمن كادر مجلة النيويوركر. عرف بحيائه وعدم حبه للأضواء حيث لازم سلم مبنى النيويوركر الخلفي ليتجنب المعجبين. اشتهر بكتب الأطفال؛ مثل ستيورات الصغير وشبكة شارلوت، كما نقح كتاب أستاذه ويليام سكرنك عناصر الأسلوب وأضاف عليه.

bottom of page