top of page

المرأة المتجلية

غاييل نوا، ترجمة: سعيد بو كرامي

فصل من رواية:
المرأة المتجلية
غاييل نوا
ترجمة سعيد بوكرامي
الناشر: دار جدل
سنة النشر: 2023
عدد الصفحات: 354


"أحبّ هذه المدينة لأنني أعرف أننا لا يمكننا اختزالها في هذا الوجه الوحشي هنا، يمكن لجارك أن يلعنك بالشتائم كلها، وأن ينقذ حياتك في اليوم التالي. كما يصبح في بعض الساعات أسوأ شرير عاطفيًا. تسقط الكراهية أحياناً مثل معطف بال ومغبر."
تستقي الرواية مادتها السردية من مصادر التاريخ، إلا أنها تمتح من وحي الخيال أيضاً. تقافي الرواية سيرة فيوليت التي تعبّر عن رؤيا إنسانية تجاه العالم. كانت هذه القصة موضوعاً لمقال نشر عام 1948 في مجلة هاربر، وتحقيقاً حديثاً وجذاباً أجراه جو ألين بعنوان: لم تشيد لتحرق: قصة حقيقية للإسكان والعرق والقتل في شيكاغو. وبالتالي فالرواية شبه حقيقية عن واقع حقيقي يناضل من أجل حرية المرأة و المساواة بين البشر.

«إن البحث عن الحرية للمنفي طوعاً لا ينفصل عن حنينه إلى وطنه الأم، لأنه يظل تقريباً دفيناً في اللاوعي، ويستمر مدى الحياة».
سوشا غوبي- فتاة في باريس.


عندما استيقظتْ، نسيتْ تعاقب الأحداث التي ساقتْها إلى هذا الفندق الرديء، حيث تسعى جاهدة لأن تتوارى عن الأنظار. أيقظها ضجيج غير معتاد، أو رائحة غير مألوفة تقلبت في فراشها تحت غطائها الخشن، فاصطدمت بالحائط. ماذا يفعل هنا هذا الحائط؟ فتحت جفنيها، وحاولت أن تكيّف نظرها مع العتمة المشطورة بأشعة النهار المنسابة من بين فتحات الشباك القديم.
راعها ورق الجدران المتلاشي كمسخ، وأيقظ ذاكرتها، فاستعادت كامل تفاصيل هروبها؛ الزمن المرهق، والمعلق، والمستعجل في نبض دمائها. ليالي السهاد وهي ملتحفة بمعطفها المطري، بينما أقدامها في حذائها الخفيف تتحطم بين المحطات الطويلة؛ هذه المثابرة على الهروب من نظرات الآخرين منحتها شعوراً وكأنها تائهة بلا نهاية.
ولدت «إِلَيْزا بيرغمان» قبل واحد وثلاثين عاماً، في ليلة من الفوضى المتدثرة تحت ضباب بحيرة ميشيغان، حيث يمكن أن تختفي الجثث والجيف، وكل ما يُستحسن التخلص منه وإخفاؤه.
طالما أجلت هروبها، وماطلت، وتذرعت بحجج موضوعية ومخاوف غير عقلانية تناقض غرائزها. كانت تنتظر حتى لم يعد أمامها خيار إلّا التسلح بالشجاعة، والانحدار إلى المدينة السفلية، حيث ستواجه أولئك الذين يمكنهم مساعدتها؛ ذلك النوع من الأصدقاء الذين يُستحسن الابتعاد عنهم، والذين يتقاضون أموالاً باهظة مقابل خدماتهم، لكن في المقابل لا يخذلونك أبداً.
كانت تعرف ذلك حتماً، في اللحظة التي وضع المجرم الإيطالي الصغير فيها جواز السفر فوق طاولة الحانة الصغيرة والمشبوهة، وفتحته وتفحصته في صمت، حيث أذهلها التشابه الجسدي. كانت صاحبة جواز السفر تدعى «فيوليت لي». ولدت في 11 مارس 1919 في شيكاغو، قبل بضعة أشهر من أن تضيف «إِلَيْزا» صرخات ميلادها إلى صرخة مدينة تحترق بالنيران وتسيل فيها الدماء.
في الصورة، كانت عينا «فيوليت» مزيجًا من اللون البني والأخضر، وشعرها الكستنائي المنسدل حتى الكتفين، يوحيان بإمكانية أن يكونا توءمين. ليست طويلة جداً، بل كانت أطول منها بسنتيمتر واحد. لا يذكر جواز السفر ظروف نهايتها المبكرة.
لا تعرف «إِلَيْزا» شيئاً عن هوية من تحمل اسمها. ولا تعرف حتى ظروف موتها وهي في عنفوان شبابها، إذا كان لكلمة عنفوان، بالنسبة إليها، من معنى.
خلال حياتها القصيرة، لا بد أن «فيوليت» كانت مثل الفتيات الفقيرات اللواتي تبتلعهن المدينة وهي تتثاءب، الفتيات اللواتي لا يتوخين الحذر.
يبدو أن «فيوليت» كانت فتاة لطيفة وضائعة، تتشبث بحلم بعيد المنال، أو لا تحلم بأكثر من حذاء جديد، وساقي مشروبات وسيم في حانة، يعاملها بطريقة أفضل من الآخرين قليلاً. هل انتهى بها المطاف إلى القتل طعناً في أحد الأزقة الخلفية الجنوبية، أو في زاوية أحد تلك الموانئ، حيث يتبادل رجال العصابات الأشقياء أحدث حيلهم؟ أو ربما خنقها عاشق ثريّ؟ هل قُتلت مقابل بضع دولارات، أو من أجل اغتصابها بسهولة؟ على الرغم من كل ما تعرفه، ربما ماتت «فيوليت»متجمدة على مقعد في «جاكسون بارك»، أو بجرعة مفرطة لمقاومة الليل الطويل.
هيمن شبحها على أفكار «إِلَيْزا»،كما لو أن انتزاعها هويّتها قد حمّلها مسؤولية تجاهها، وعهد إليها بواجب غامض يتعين عليها تفسيره.
ماذا لو التقتا صدفة، ودار بينهما حديث، ما الذي سيقولانه لبعضهما؟ كانت «فيوليت لي» ستغبطها بلا شك على طلعتها البهية، لأن إكسسواراً واحداً مما ترتديه يعادل راتب شهرين لبائعة مثلها في «مارشال فيلد». للوهلة الأولى، كانت ستقيس المسافة بين عالميهما: الهاوية التي تفصل قصور «غولد كوست» عن أثاث «ويكر بارك» القذر.
«لو كان بإمكانك أن ترينني الآن، يا فيوليت»..ابتسمت «إِلَيْزا» من سحيق ملجئها ذي الحيطان المتصدعة. وأضافت في نفسها: «عندما ورثت اسمك، كان علي أن أرث الحياة التي عشتِها»..
من الآن فصاعداً، يجب أن تنسى اسمها الحقيقي. من دون أن تلتفت إلى الوراء، ينبغي أن تمزق الخيط الرفيع بين المشاعر والذكريات المتلاحمة فيما بينهما.
عند قدم السرير الضيق، رمقت معطف المطر المتجعد الشاهد على المسافات المحرزة. بدا جلد حذائها الخفيف مخدداً بالندوب، ولكن في الجزء السفلي المزدوج من حقيبتها توجد بعض المجوهرات التي لا يستطيع امتلاكها سوى عدد قليل من الهاربات من منزل ذويهن. قد تكفي لتلبية احتياجاتها لبعض الوقت، إذا تمكنت من بيعها، لكن في الوقت الحالي، هي غنيمة مرهقة لامرأة تحاول أن تتوارى عن الأنظار.
لاحظت فوق المنضدة، بعينيها الخامدتين، آلتها الروليفليكس؛ أغلى ما تملكه إلى جانب صورة ابنها.
إنه لأمر غريب، لسنوات خلت كانت تحلم بأن منزلها يحترق، وأن عليها أن تهرب، فتقرر في بضع ثوانٍ ما يجب أن تأخذه معها، فتهرع إلى غرفة الطفل، لتوقظه من النوم، وكنزها المستعر في صدرها، لكنها دائماً كانت تتراجع القهقرى في الممر الذي أعماها دخانه، مخاطرة بين بقائها سجينة، والعودة إلى غرفتها وهي تتخبط محاولة البحث عن كاميرتها، التي لم تنسها أثناء هروبها، بينما تركت الطفل الصغير وراءها. كانت هذه الفكرة تخنق أنفاسها، وتشل ساقيها. ينبغي في الحال صدها بعيداً قدر الإمكان. هيّا تنفسي الصعداء.
أو تترك هوسها يضرم النار في كل شيء، فلا تنام أبداً.

الفصل الأول
في ردهة الفندق، كانت صاحبته ذات النظرات الفضولية تخوض في حديث مع فتى التوزيع.
لقد بالغت في وضع المساحيق على وجهها، فصارت مثل مبنى يعاد طلاؤه لكنه في الحقيقة آيل للسقوط. كان أحمر الشفاه يلطخ زوايا شفتيها المترهلتين، والأقراط والحواجب المعاد رسمها بقلم الرصاص تخون مخاوفها من أن تظهر بمظهر لا يليق بصاحبة الفندق.
أمسكت المفتاح الذي ناولتها إياه وعلقته على السبورة. كل شيء لزج هنا، الأثاث والناس. سألتها عن اتجاه ساحة «مادلين». على الرغم من أنني كنت أتحدث وأقرأ اللغة الفرنسية منذ فترة طويلة، إلا أن لكنتي في الغرب الأوسط أفسدت المقاطع وبعثرت جنس الأسماء. عندما تتحدث المديرة تبتلع نصف الحروف الساكنة وعليّ أن أبذل تركيزاً متعباً لفهمها. وبينما كانت تُشير إلى الاتجاه بإيماءات كثيرة، قال لها الموزع ذو القبعة الغائصة فوق عينيه:
- أخبريني، يا أمي الصغيرة..هل أصبحت تؤوين الأمريكيين الآن؟
ردت، وهي تضيّق عينيها، بأن سمعتها، بلا ريب، قد تجاوزت المحيط الأطلسي، ثم انخرطا معاً في نوبة من الضحك.
رفع عامل التوصيل قبعته لتحيتنا وانصرف، محملاً بالخضراوات تحت ذراعه، متجهاً نحو محطة «سان لازار». شعرت بالارتياح وأنا أستنشق الهواء الطلق في الشارع. عدت إلى الفندق المتهالك حيث استأجرت غرفة. يجب على المرء أن يستقر في مكان ما. كانت تنبعث منه رائحة القذارة والبخل. أشعر أنني إذا مكثت هنا، فسأبلى وأتلاشى من الداخل.
أمس، عندما خيم الظلام ساعة وصولي بالقطار من «لوهافر»، كنت منهكة من شدة التعب. تسكعت في أرجاء المحطة لفترة طويلة بين هذا المزيج من الزخرفة الزائفة والقذارة، فقررت في نهاية المطاف أن أقيم هنا.
شعرت بالرغبة في البكاء. ناولت هذه المرأة بعض الأوراق المالية الفرنسية مقابل سرير رديء وغرفة ذات جدران ورقية ومرحاض ومغسلة من دون ماء ساخن.
أواسي نفسي بالقول إن الاختلاف بين حياتي القديمة وهذا المكان مذهل للغاية إلى درجة أن أولئك الذين يبحثون عني لن يخطر في بالهم وجودي هنا.
إنها مرحلة أولى فقط بعد المحطات والقارب وساعات الانتظار على الأرصفة المليئة بالحقائب والأطفال. كانت ليلتي الأولى صاخبة مثل عبور البحر في طقس سيئ.
استيقظت مفزوعة على ضجيج جيراني، ونمت نوماً قصيراً ومتقطعاً، رأيت خلاله كوابيس مشهد فقداني المتكرر لابني «تيم» وسط حشد هائل كان يدفعني من دون أن يسمعني.
عندما استيقظت، عبرت الرواق مجدداً. لم يكن يعكر هدوءه إلا شخير غير منتظم يذكرني بشخير «آدم» عندما كان يفرط في الشراب.
مشيت بعيداً باتجاه الـ«مادلين»، يطريني الهواء المنعش. كانت الشمس تحدد حواف الأسطح وتعيد رسم الوجوه.
أنا، القادمة من ذلك العالم ذي الكبرياء المعماري العمودي، لاحظت هذه الواجهات المتراصة مثل السيدات المسنات اللائي يتناولن الشاي، بينما خطوط «آرت ديكو» تكسر الطابع المعماري كله، وفي كل مكان ثمة متاحف وكنائس ومعالم أثرية، حُفظت على مر القرون. هنا بالتحديد يصبح الماضي هوساً.
تذكر اللوحات الموجودة فوق الشرفات أن مثل هذا الشاعر أو هذا السياسي كان يعيش هنا، التماثيل تحرس حدائق الساحات وملتقى الطرقات. أتساءل إذا ما كانت كل تلك الأذرع الحجرية ستنتهي بتقييدك في المكان حائلة دون عودتك.
في «شيكاغو» الأمر عكس ذلك، نحن نغازل المستقبل فقط. كما لو كان يجب أن ننسى من أراقوا دماءهم من أجل بناء المدينة، هذه الدماء تأتي من جميع أنحاء العالم لتختلط بدم المسالخ. نسارع إلى التدمير من أجل إعادة بناء رموز جديدة للزهو والقوة تكون دائماً أشد علواً وأكثر غطرسة. الماضي هو هذا الطين الذي يتمسك بأحذيتنا، هذه اللهجة التي تخون أصلنا. هذه هي الذكريات التي تمزقنا.
على الجادات الكبرى، أترك نفسي لهدهدة مفرطة من الفخامة وأشعة الشمس، مشيت بجوار محلات الأزياء الراقية فلاحظت هؤلاء السيدات الأنيقات اللائي يشبهنني، عندما كان اسمي فيما مضى «إِلَيْزا»، أذرع شارع «ستيت ستريت» برفقة «دانا»، بينما تتبعنا «سولي» وهي تحمل الطرود. تمثل هذه الطرقات المستقيمة والسجاد الأحمر وراكنو السيارات والطاولات الأنيقة المرصوفة في الشرفات حلمَ الأمريكيين الأثرياء. أعرف برجوازيات ثريات في «غولد كوست» يدفعن أموالاً باهظة من أجل امتياز الدخول إلى «كريستيان ديور» مرتين في السنة قبل الذهاب لتناول العشاء في مطعم «مكسيم» والنوم تحت ظليلات من الطراز القديم، نسخة من «غاتسبي العظيم» على منضدة سرير. إنهن يفخرن بأنفسهن لكونهن في طليعة الموضة، يحصلن على الإمدادات من «باريس» أو «نيويورك» ولديهن دائماً الزي المناسب لهذه المناسبة، سواء أكان ذلك لجمع الأموال للأيتام أم من أجل الاستمتاع بحمامات الشمس على سطح مركب شراعي.
في ذلك الوقت، كنت أشبههن. ومع ذلك، تخليت عن أقنعتي من دون إحراج. في اليوم الذي هربت فيه، ملأت حقيبتي بملابسي الأكثر رزانة، تلك التي أرتديها عادة للذهاب إلى الكنيسة أو للمساهمة ببعض الساعات التطوعية في أعمال الأب «كيغان».
رمقت صورتي على زجاج الواجهات، فتاة ترتدي تنورة رمادية باهتة ومعطفاً واقياً من المطر تتسكع بحذاء ذي كعب عالٍ، شعرها مكور على شكل كعكة في مؤخرة رقبتها. إنها ليست قبيحة لكنها لا تلفت الانتباه، وتذوب بسهولة بين المارة. كانت «الروليفيكس» التي تضعها حول رقبتها الشيء الوحيد الذي يميزها عن باقي الناس. إنها آلتي «الرولي» التي ترافقني، ولم أتخلَ عنها منذ بداية الهروب، وزنها وكثافتها مقابل الضفيرة الشمسية هو ما يجعلني أشعر بأنني أقل عُرياً وأقل ضياعاً في هذه الشوارع حيث أمشي غريبة. ورغماً عني، إن عيني تحدقان في الحشد بحثاً عن وجه فريد، ومشهد لالتقاطه على الفور. وقد لمحت فتاة ترتدي قبعة سوداء كانت مستغرقة في قراءة قصة بوليسية على شرفة مطعم «براسيري»، تضع سيجارة على زاوية شفتيها. أحببت وضعها المنفصل والمترفع، وكأن لا شيء يمكنه أن يطولها. نظرت إلى الأعلى وأنا أركز على وجهها وعبوسها، فضغطت على زر الغالق وأنا أنسحب بعيداً، مسرّعة من وتيرة خطواتي.
كنت مندهشة من أن خياري، في لحظة البحث عن النجاة، قد وقع على هذه المدينة التي لم تطأ قدماي أرضها أبداً. وكأن روح والدي، التي هجرتني منذ سنوات، أرسلت إلي إشارة عبر الضباب. لقد أحب «باريس» حباً كبيراً إلى درجة أن استحضاره المتكرر لها حل محل قصص ما قبل النوم. كانت ملاذاً للاجئين والفنانين، إنها قلب البوهيميين والمفكرين، وعاصمة حقوق الإنسان وأولئك الفرنسيين الذين أهدونا سيدة الحرية، لتضيء بوابة أمريكا بشعاعها المتسامح.
قضى والدي في هذه المدينة سنوات ساحرة وخالية من الهموم. وقد حافظ على هذه الذكرى العزيزة في «شيكاغو»، لتلطيف قساوة المنفى أولاً، ثم لتقوية إيمانه بعقيدة إنسانية كان رسلها هم: «فولتير» أو «روسو» أو «فيكتور هوغو» أو «إميل زولا».
كنت أشم رائحة صيف متأخر عن الرحيل ظهيرة هذا الشهر السبتمبري، وبدت لي «باريس» وكأنها تستقبلني بالأحضان، بيد أن ذلك لم يكن سوى سراب مخادع. أعلم ألا وجود لمدينة ترحب بأولئك الذين قطّعوا المراسي. لم أنسَ أكواخ «بلسن» أو «برونزفيل» أو «شيشرون»، وتلك الجحافل من الأشقياء النحيفين القافزين الذين ينبحون خلف الرجال والنساء بوجوه قاسية وموسومة. كانوا يتحصنون في أزقة المدينة الضيقة، تلك الجيوب التي تردد لغتهم، وحيث يجدون العزاء لأنفسهم في الاختلاط بمن يشبههم، من القذرين والمحرومين أمثالهم. وبذلك يجدون القوة للقتال والبقاء على قيد الحياة.
أشعر أن «باريس» ستكشر عن أنيابها قريباً للعابرين بقمصان وبناطيل والنساء الجميلات، وبذلك تزيحني عن وحدتي. أطرد من بالي هذه الفكرة الناجمة عن قلقي، وأمر بالعديد من متاجر المجوهرات الراقية، لكنني لم أعرض عليهم ما لدي للبيع.
إنني حذرة من هذه المؤسسات، التي يرافقك، والتي يستقبلك، عند مدخلها، طاقم فضولي. ومع ذلك ينبغي أن أتخلص من ذكريات «آدم». ستنفد الأموال القليلة التي تمكنت من جلبها معي قريباً. لم يكن زوجي يبخل بالمصروفات، لقد أحب أن يحضر القطع النادرة من الجانب الآخر من العالم. أخشى أن تكون هداياه تشبه تلك الطيور ذات الحلقات التي يمكن تتبع موائلها، وبذلك سيكلفون من يقتفون أثري ويتتبعون طريقي.
وأخيراً انتهى بي الأمر إلى اختيار محل تاجر مجوهرات يقبع في شارع هادئ خلف شارع «بوسمان».
في الطابق الثالث المطل على الفناء، جاء رجل قصير ونحيف للترحيب بي. يبدو أن شاربه البارز كان بمنزلة انتقام من صلعته.
- حسناً يا سيدتي العزيزة، ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟ يسألني بصوت ناعم أشبه بعزف الناي.
أكذب عليه وأشرح له أن زوجي قد مات للتو، وأن الحزن مدٌّ وجزر. وللنهوض مجدداً قررت الاستقرار في «باريس» لفترة محددة، نعم أنا أمريكية، هل هذا جليّ؟ ينبغي أن أتخلى عن بعض المجوهرات، هذا شيء مؤلم لكنه ضروريّ، لا يجب أن نرتبط بهذه الأشياء التي تسحبك إلى القبر، وتهمس لك أن حياتك فقدت بوصلتها.
أومأ التاجر برأفة، شارد الذهن، وهو لا يكاد يرفع عينيه عن سوار «آرت ديكو» الذي أخرجته من حقيبتي، بدا مفتوناً بالأنماط الهندسية المرصعة بالزمرد والألماس الصغير. سمحت له بفحصه، وأقسمُ أن نبضه كان يتسارع وهو يراقبه من كل زاوية، ويقيّم دقة الإطار ونوعية الأحجار.
أعادتها هذه الحلية إلى أمسية سعيدة على ضفاف بحيرة «ميشيغان» قبل تسع سنوات. كانت القوارب راسية، وفوانيس حفلة ترحب بقدوم الموسم الجميل، الملصقات الوطنية معلقة لدعم الجنود الذين كانوا سيغادرون للقتال في أوروبا.
كان كل زوجين يرقصان على منصة خشبية، بينما المرقص يلقي وهجه المتموج على الماء الأسود. كانت الرياح لطيفة تداعب الظهر. وكان «آدم دونيللي»، هذا الرجل المعتاد أن يُطاع، يهمس لي أنه يجب أن أدخل حياته لكي يدرك أنها كانت خالية من المعنى. «معك، أرى عالماً من المشاعر التي كانت مغلقة أمامي. لا تتركيني عند الباب يا (إِلَيْزا) لم أتعلم أن أشعر بالأشياء كما تشعرين بها. يمكنك أن تجعليني مختلفاً».
متأثرة بهذا الاعتراف الخاشع، وافقت على لقائه مرة أخرى. يمكن استدعاؤه في أي وقت للخدمة العسكرية، منحنا هذا التهديد المطرد إحساساً بالإلحاح والسرعة. شيء ما كان على وشك الانتهاء. كان علينا أن نسرع ​​لنحيا ونحب.
عندما كان على أهبة المغادرة، منحني هذا الصندوقَ الملفوف بورق حريري كما لو كان قليل الأهمية. اكتشفت لاحقاً، في غرفتي وأنا وحدي، السوار، وبريق الحجارة الرصين، ورقة الذهب الأبيض على بشرتي. بالنسبة إلي، كان يرمز إلى اللحظة التي دفعت «آدم» إلى التواضع والتنازل عن كبريائه ليؤثر حقيقة في قلبي.
«إنها قطعة جميلة»..غمغم التاجر. لكنها من دون شهادة أصالة، لا أخفيك سيكون بيعها أكثر صعوبة..وأردف: سأفكر في الأمر، وهو يفكك رموز الفزع البادية على وجهي، أضاف: أدركُ أنك في عجلة من أمرك..وفي هذه الحالات، هناك دائماً طريقة لحل مثل هذه الأمور بقليل من النيات الحسنة. عودي لزيارتي مرة أخرى بعد يومين. بحلول ذلك الوقت، سأخبر بعض الزبائن الجيدين بخصوص ذلك.
وددت في تلك اللحظة أن ألتقط له صورة أخلد فيها هذا المزيج من المكر والحساب، وذلك اللمعان الذي يومض في عينيه متوقعاً صفقة جيدة. كنت أنقر بأصابعي على علبة آلتي الفوتوغرافية «الروليفليكس». كنت أشعر بالندم لأنني كشفت عن استعجالي. أعرف سلفاً أنني سأقبل عرضه في نهاية المطاف.
بعد ذلك بقليل، عندما خرجت من الفندق لتناول العشاء بعد تحميل آلتي الفوتوغرافية بفيلم أكثر حساسية، كانت صالة الاستقبال شاغرة والشارع يدوي بضجيج غير عادي.
على الرصيف، رأيت مومسين تعتقلهما الشرطة. كانت أطولهما تقاوم مثل نمرة، شعرها قرمزي طويل، وساعداها مفتولان مثل مصارعة، وعضلتا ذراعيها منتفختان تحت بشرتها البيضاء، وعيناها مشتعلتان ومن فمها تتقاذف إهانات لا أفهمها، لا بد أنها كلمات من العامية الباريسية.
أما الأخرى فكانت عبارة عن كتلة من الغضب الهادئ، تتفاوض مع الشرطي الذي يريد أن يجرها إلى العربة المتوقفة في الجوار. كانت ترتدي باروكة شعر مستعار على منوال «لويز بروكس»، شعرت أن نظرتها المضطرمة تخترقني، فلم أعد أرى إلا ذلك الشعر الأحمر تحت الضوء الخافت، وشحوب الجلد تحت الجوارب الشبكية، وغضب الأجساد المتصارعة.
فأمسكت روليفليكسي، وأنا على بعد أمتار قليلة منها، وعيني مثبتة على العدسة التي احتضنت عنف المشهد وسرعته. دفع رجال الشرطة المومسين نحو العربة، عندها لمحتني ذات الشعر الأحمر، فنظرت إليّ نظرة حاقدة. قمت على الفور بإعادة شحن الكاميرا، والتقطت لقطة أخرى وهي تبصق في اتجاهي، قبل أن تختفي داخل العربة.
بعد مغادرتهم، خيم الصمت على شارع «بروفانس» حيث استعاد الروتين هيبته، فعادت حفلة المومسات والزبائن، والنداءات الإيحائية، وهمس الظلال، والمفاوضات والسجائر.
كنت آمل أن تكون الصور جيدة. إنه رهان قائم دائماً، فلا توجد فرصة ثانية. وأنا أراقب هذه الطغمة الغريبة التي تنتشر على قارعة الطريق، أتساءل كيف لم أنتبه إلى أنني كنت في شارع للدعارة، وأنني اخترت نزلاً لقضاء المآرب. كانت أمي تعتبره فوهة الجحيم، فقد فضلت أن تتجاهل أي شيء متعلق بالجانب الشمالي القريب من «شيكاغو». كان مجرد ذكر لشوارع المدينة المخزية يدفعها إلى مغادرة المائدة. والمثير للدهشة أنني لم أكن أشعر بالصدمة ولا بالخوف، بل إنني كنت مفتونة بما لا أعرفه وأريد أن أفهمه. كنت مبتهجة بأن أكون هنا في الوقت المناسب لالتقاط هذه المواجهة، والتمرد الحيواني لتلك المومس ذات الشعر الأحمر وسحرها المغناطيسي، كنت سعيدة بأن أصور هذه «اللويز بروكس» وهي تحدجني بعينين جامدتين، وأجفان محاطة بالكحل..


الكاتبة الفرنسية غاييل نوا ولدت عام 1973 في باريس. اشتهرت برواياتها التي تجمع بين الخيال والواقعية السحرية، حصلت على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة.انطلقت مسيرتها عام 2007 برواية "الغبار الأزرق" و"حصة اللهب" التي صدرت عام 2015، ونالت جائزتي "فرانس بلو/صفحة المكتبات" وجائزة "كتاب الجيب للقراء". وفي عام 2016 أصدرت روايتها " حبر الأحلام" التي نالت جائزة الكتاب الفرنسي. ثم أثبتت إبداعها في سيرة روائية للشاعر الفرنسي روبرت ديسنوس بعنوان "أسطورة النائم المستيقظ" عام 2017، حاصدةً "جائزة المكتبات". وفي عام 2020 صدرت روايتها " المرأة المتجلية" التي حظيت باحتفاء كبير من القراء والنقاد.

المترجم سعيد بوكرامي، هو كاتب ومترجم وحاصل على شهادة السلك الثالث: دبلوم الدراسات المعمقة في الأدب الحديث من جامعة محمد الخامس في الرباط عام 1995. ترجم وألف أكثر من 30 كتابا وعشرات المقالات المنشورة في أهم المجلات والدوريات البارزة. من بين إصداراته في الترجمة: مسرحية (فندق العالمين) لإريك إمانويل شميث عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب سلسلة المسرح العالمي يناير 2014 . (رسائل غرامشي إلى أمه) عن دار طوى 2015 . ألان مابانكو اللقالق لا تموت دار مدارك 2020. الكونت مونت كريستو ألكسندر دوما دار كلمات 2021. صيف أحمر دانييل كيروس دار الخان 2020. المشي فلسفة. فريدريك غرو دار مسعى السعودية 2022. ظلمات . قاتل بلا ضمير - هنينغ مانكل من المسرح العالمي عن المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب 2022 . السفير الحزين. أناندا ديفي إبداعات عالمية عن المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب 2022...

bottom of page