top of page

داخل عالم إيسمار

جيلان الشمسي

أمضي معظم وقتي بعد العمل، مثلما نفعل جميعًا، في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي دون هدف. حركة رتيبة أقوم بها دون تفكير بين الوقت والآخر بفتح هاتفي والتصفح ليمر الوقت. لاحظت مؤخرا أنني أصبحت أمضي وقتي كله في مشاهدة مقاطع من الفيديو محاولةً البحث عن تهدئة للنفس بعيدًا عن يوم العمل الطويل. أُقلب لساعات في فيديو تلو الآخر. مقاطع فيديو متتالية للرمال الحركية الملونة بينما يمسك أحدهم بسكين ويقطعها ببطء، أو يحولها لأشكال أخرى. أحيانا أظل أشاهد فيديو لفتاة وهي تضع لونًا على أظافرها ببطء وحرص. أحيانا أخرى أمضي لساعات مشاهدة كعكة وهم يصبون عليها ألوانًا مختلفة، طبقة بعد الأخرى، وأحيانًا يقطعونها لأجزاء متساوية. تلك الفيديوهات وغيرها تنجح في خلق حالة من السلام والهدوء الداخلي وتزيل القلق اليومي فلا أتوقف أنا أو غيري عن مشاهدتها يوميًا.

لكن ما هو المميز فيها؟
هذه المشاهد التي نختبرها يوميًا ونتعلق بها دون هدف يطلق عليها اسم ASMR أو إيسمار وهو اختصار لمصطلح Autonomous Sensory Meridian Response أي الاستجابة الحسية الزوالية الذاتية، وقد بدأ مصطح ASMR في الانتشار منذ سنوات طويلة على جميع وسائل التواصل الاجتماعي في العالم كله.

لكن ما هو الASMR؟ وما المحتوى الحقيقي الذي يقدمه؟
هي في الحقيقة ظاهرة حسية تبعث على الاسترخاء العميق وتوصف بأنها مثل الوخز اللطيف الذي ينشأ من فروة الرأس والرقبة، ويمكن أن ينتشر إلى بقية الجسم. لا يختبر كل الأشخاص هذا بل من الممكن أن يختبر الشخص فقط إحساس من الراحة كمن يلقي بهمومه بعد يوم حافل. يحدث الASMR بشكل لا إرادي استجابة لبعض المحفزات البصرية والسمعية. يمكن أن يختبر الإنسان الASMR والإحساس الملازم له من أصوات ومشاهد مثل الهمس، الكلام الخافت، النقر، الخدش، الحركة البطيئة والواثقة للأيدي. يمكن أن تضم أيضًا التجارب الواقعية مثل تصفيف الشعر أو قصه أو طي المناديل. مؤخرًا بدأت القائمة تضم مشاهد الرمال الحركية الملونة و"السلايم (أو الصلصال)" وكريمة الكعك أثناء سكبها فوق المخبوزات. مشاهدة مقاطع الفيديو تلك بأصوات ومرئيات معينة يمكن أن تؤدي إلى استجابة الASMR لدى بعض الأشخاص.

كيف بدأت ظاهرة الASMR في الانتشار؟
حينما بدأت جينيفر آلان في مشاهدة مقاطع فيديو خاصة بالفضاء شعرت بذلك الإحساس الغريب، وخز ينتشر في فروة رأسها وفي رقبتها بينما تراجعت الكاميرا لتظهر رخام الأرض. كان الأمر بالنسبة لها مثل إحساس غريب شعرت به وهي تشاهد هذه المقاطع. أحبت جينيفر هذا الإحساس بالهدوء كثيرا فقد كان مميزا للغاية وليس كأي شيء اختبرته من قبل. حاولت مِرارًا البحث عن مسمى لهذا الإحساس دون جدوى. لمدة تسع سنوات ظلت جينيفر تبحث في أرجاء الإنترنت على أي وصف لشعور مماثل دون أن يحالفها الحظ. لكنها في 2009 تمكنت من العثور على وصف مشابه للحالة التي اعترتها على إحدى المنتديات. بدأت جينيفر في عمل فيديوهات تحمل هذه الأنشطة المُبعثة على الهدوء ووجدت تفاعل من العديد من الناس وأنها ليست الوحيدة التي تتأثر بهذه الفيديوهات. في 2010 قررت جينيفر تسمية هذا ASMR.
تساهم فيديوهات ال ASMR على الاسترخاء وانخفاض معدل ضربات القلب وتقليل الاكتئاب. يبدو الأمر كأنه جلسة استرخاء عميق أثناء مشاهدة الألوان التي تنسكب أو السكين الذي يقطع شيء رملي. وأفادت دراسة أجريت عام 2015 أن غالبية مشاهدي مقاطع ASMR يشاهدونها للاسترخاء والتعامل مع التوتر والنوم، والبعض شعروا أنها كانت مفيدة للاكتئاب والألم المزمن. مزيج الشكل واللون والصوت يبعث على هذا.

هل يعد ASMR فعلا عبثيًا؟
قد يتبادر في أذهاننا حين نشاهد نشاطًا فيه شخص يقوم بطي المناديل أو بتقطيع رمال ملونة أن هذا نشاط سخيف لا هدف منه. فكيف يمكننا فهم قيمة نشاط كهذا؟ لكن مع ذلك أمضي لساعات أشاهد مقطعًا تلو الآخر دون توقف لتفريغ شحنة من القلق أو لإجبار نفسي على النوم. لكن الحقيقة أن ASMR تكمن جدواه في عدم قيمته.
العديد من الفلاسفة الذين ناقشوا فكرة العبثية كانت السمة المشتركة بينهم هي التناقض. فالعبثية تتضمن عدم الجدوى وتناقض في رؤية أنفسنا والعالم من حولنا. وهكذا نشعر من مقاطع ASMR حين نشاهدها. فالتناقض بين تكرار النشاط الذي قد يبدو بلا معنى أو بلا جدوى وبين هذا الحماس والجدية التي يقوم بها الشخص هو ما يخلق العبثية داخله. ولكن في هذه الحالة تصبح العبثية ضرورة لأنها تنتج عن التناقض بين حياتنا الممتلئة والإرهاق والعمل وبين تقطيع كعكة بطريقة حذرة متساوية. فيتبدد هذا القلق والتوتر داخلنا. لذلك فهذه الدقائق التي نمضيها يوميًا تفرغ بطريقة ما شحنة من القلق موجودة داخلنا.

جيلان الشمسي هي كاتبة مصرية، صدر لها رواية الطائفة 2022، مجموعة قصصية كأن تنقصه الحكاية 2018، ومجموعة قصصية يومًا ما سأكون شمسًا. يمكن متابعة حسابها على تويتر (@GilaneElshamsy) وعلى فيسبوك (gilane.elshamsy)

bottom of page