top of page

جاتسبي العظيم: أسطورة رجل وحيد

محمد الأحمدي

«على بعد خمسين قدمًا خرج شبح من ظلال منزل جاري، ووقف ويداه في جيبيه ينظر إلى فضة النجوم المبعثرة(...) جاء ليأخذ نصيبه من سماواتنا المحلية»
بهذه الصورة المبالغ فيها ومن خلال عينيّ «نِك كاراوي» نرى جاتسبي للمرة الأولى. كيانٌ شبحي ينبثق من الظلمة. وقبل زوال سحر كلماته يضيف نِك، الراوي والشخصية الرئيسية في رواية «جاتسبي العظيم»، ما يكشف ثمن هذه المبالغة:
«قررت أن أناديه(...) لكني لم أفعل، فقد صدرت عنه فجأة حركة توحي بأنه سعيد بوحدته، إذ مد ذراعه نحو المياه بطريقة غريبة»
في أولى صفحات الرواية، يقرر نِك أن يترك جاره «العظيم» وحده. وبهذا القرار يتضح لنا مصير جاتسبي؛ رجلٌ أسطوريٌ وحيد.

من هو جاتسبي؟
في طريقه إلى تشكيل هويته الزئبقية، مر جاتسبي بمحطاتٍ عجيبة:
من طفلٍ فقير إلى مراهقٍ حالم أنكر اسمه وهجر أهله، اشتد عوده فأصبح ضابطًا مبجلًا، لينهي رحلته رجلًا ذا ثراء فاحش مشبوه في مصدره. ومن أهم أسباب مآله هذا أنه مواطن أمريكي عاش بداية القرن العشرين، في طفرة الازدهار الاقتصادي ووقت تشكّل الحلم الأمريكي الذي لاذ به فرارًا من ماضٍ يخجله، مؤمنًا بحلمٍ حقيقته كانت أقسى من الكوابيس. فهو مجرد رمز خيالي يختبئ تحته رجل وحيد يدعى «جاي جاتسبي» أو «جيمس جاتز» الاسم الذي أنكره ليضع حاجزًا إضافيًا بينه وبين ماضيه.

لا أحد يعرف «جاي جاتسبي»
جاتسبي رجل جاء من العدم إلى مدينة نيويورك، فاتحًا أبواب قصره لمئات الزائرين من أهل المدينة لحضور حفلاته، التي أفضل ما يصف ضخامتها أنها تتطلب ثمانية عمّال يكدحون موصلين الليل بالنهار لإصلاح مفاسدها.
الغريب أن مضيف هؤلاء هو شبح؛ قشرة هشة لشيء لا يُعرف، لأسطورة.
فحينما يسأل نِك في إحدى الحفلات عن جاتسبي يأتيه الرد على شكل «حملقة مندهشة» ثم تنكر إحدى الشخصيات معرفتها بـ«تحركات» جاتسبي.. تحركاته! وكأنه عصابة خفية!
حتى إن إحدى الضيوف تردد إشاعة سمعتها عن جاتسبي «قيل لي إنهم يعتقدون أنه قتل رجلًا» ويصحح آخر الإشاعة بأخرى «بل كان جاسوسًا ألمانيًا أثناء الحرب» ويكتمل مثلث الإشاعات بادعاء شخصية في مشهدٍ سابق أنه ورث كل أمواله من ابن عمه القيصر.
كل هذه الأساطير حول هوية جاتسبي تتشكل أمام عينيه. فسكوته واختبائه بين معازيمه له دورٌ كبير في خلق الشائعات، وفي إحدى المشاهد يزيف ماضيه لنِك تاركًا دور الحياد ليشترك في تشكيل صورته الأسطورية.
إذن لماذا، أو لمن، يقيم جاتسبي هذه الحفلات إن كان غير مهتم بخلق شبكة اجتماعية مع السياسيين، والممثلين، والمشاهير، وبقية مجتمع نيويورك الراقي الذي يملأ منزله أسبوعيًا؟

إلى «ديزي»… من جديد
اختار جاتسبي مكان سكنه وأقام حفلاته الباذخة وتجول خفيةٍ بين ضيوفه طمعًا في أمل وحيد: أن يلتم شمله بجارته «الفتاة الذهبية» ديزي بوكانان؛ المرأة التي شغف حبها قلبه عندما كان جنديًا ليصطدم حينها بالحقيقة المفزعة: جاتسبي أفقر من أن يكون زوج ديزي.
هكذا بدأ أكثر الرجال مثابرةً وأقلهم صدقًا بحثًا عن الثراء دام خمس سنوات، عاد منه ليجد المرأة التي أحب وقد أصبحت زوجةً وأمًا.
أما ديزي، امرأة أحلام جاتسبي، فحين اللقاء اختلطت فرحتها بالأسى، فاحتضنت قمصانه باكيةً لأنها «جميلة للغاية». وفي مشهد آخر يرتطم جاتسبي بالساعة الواقفة في غرفة المعيشة ومن ثم يحاول «إصلاحها». لنعرف بطريقة مذهلة غير مباشرة أن كلاهما يندبان السنوات المهدرة، لا الساعة ولا القمصان.

ضوء الوهم الأخضر
تبدأ قصة جاتسبي بمحاولة مد يد، وكأنه يريد القبض على ضوء أخضر سحر عينيه، ضوء يتلألأ على سطح الماء أمام بيته، نعرف لاحقًا أن مصدر هذا الضوء آتٍ من مرفأ بيت ديزي. وبعد لم الشمل وتحقق الحلم، يفقد الضوء تأثيره السحري على جاتسبي فيصبح مجرد «ضوء أخضر فوق مرفأ».
مهما طالت يد جاتسبي يبقى كل ما يتوق إليه بعيدًا. وحتى بعد جنيه لكل المال الذي جناه -بغض النظر عن شرعيته- لم يكسب احترام المجتمع الراقي الذي رفضه عدة مرات كان أقساها حينما رد توم بوكانان، زوج ديزي، ساخرًا من جاتسبي الذي طلب من ديزي ترك زوجها «لن تتركني من أجل محتال سيضطر إلى سرقة الخاتم الذي يضعه على إصبعها» فرغم أموال جاتسبي إلا أن فكرة الثراء مختلفة في عيني شخصٍ تربى فقيرًا عن ابن إحدى أغنى أسر أمريكا.
كل شخصيات الرواية عيونهم مضللَة حتى جاتسبي نفسه، فبعدما قابل ديزي طلب منها ملحًا أن تخبر زوجها بأنها «لم تحبه أبدًا» حتى ردت بانفعال على طلبه العجيب «إني أحبك الآن، أفلا يكفيك هذا؟» لكن الجامح مستحيل الإرضاء أراد شيئًا لا يمكن أن يتحقق، كأنه محموم بخرافةٍ لا مكان لها في الواقع.

من يعرف جاتسبي؟
تمتلئ رائعة الكاتب ف. سكوت فيتزجيرالد بثيماتٍ غنية ومواضيع خالدة، وتطرح أسئلة عن حقيقة الحلم الأمريكي، والطبقية، والأحلام، وعدة أسئلة أخرى تستحق قراءة وأخرى. لكن سؤالها الجوهري بالنسبة لقارئ تفتنه الشخصيات المعقدة هو: من يعرف جاي جاتسبي؟ هذه الشخصية المحيرة التي تشغلنا تناقضاتها وطبيعتها الأسطورية عن سبر أغوارها. ومع راويٍ غير موثوق مثل «نِك كاراوي» لا يبقى بين أيدينا سوى تخمينات تكاد تكون بسخف شائعات زوّار حفلاته.


قرأت الرواية مرة ثم فور انتهائي أعدت قراءتها، وعندما أردت كتابة مقالة كانت الرغبة بالكتابة عنها ملحة مستحيلة التجاهل. كيف تفعل رواية عن مجتمع آخر وستكمل عامها المئة قريبًا كل هذا؟
الجواب في الشخصية المحيرة نفسها.
قال أرسطو في مقالته المشهورة «الشعريات» أن تفهّم دوافع الشخصية ومعرفة رغباتها يربطنا بها على أعمق المستويات بغض النظر عن اتفاقنا مع أفعالها وطرقها. جاتسبي اختصارًا هو رجلٌ مثابر كله عيوب تقوده رغبته بالحب والقبول وأن يكون على نفس المستوى مع بقية أفراد المجتمع. وبهذه الرغبات الإنسانية الغريزية تتجاوز «جاتسبي العظيم» حاجز الزمن واختلاف الثقافات.

محمد الأحمدي راوي قصص وصانع محتوى أدبي في مواقع التواصل الاجتماعي باسم: محمد يكتب. روائي وكاتب قصة قصيرة ومقالات وغيرها. شارك بالكتابة والتحرير في المجموعة القصصية "الساردون الجدد". ينشر القصص والتدوينات في موقعه الإلكتروني: محمد يكتب.

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2024.

 جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page