سيرة القصص
نجوى العتيبي
عن الهوية
كانت القدم أسرع حجزا لمكانها من الأرض في بدء الخلق؛ فاستعدَّت لوحْدتها مع وجود أُخرى مثلها تماما. عرفتْ بنباهتها الفطرية أنّ الإنسان معجونٌ بالوِحدة زمنيًّا حتى تشوّهَ إحساسها بالوقت وصارت تمشي بلا هدى، وتلك ضريبة الدنو والسبق؛ إذ إنّ العقل مرهون بامتداد الوقت واستواء قدْرٍ لا بأس به من الحواس، والعلو له ضريبته أيضا، وهذا ما لا تحتاج إليه القَدَم التي شعرت بامتلاكها لعقل خاص بها منذ البداية.
كل واحدة من حضرة (القدمين) تدرك ذلك، وتقول في نفسها: الأخرى مجرد (تابعة).
خطوة تلو خطوة، وحفرة تلو حفرة، وسُلَّمًا بعد سُلَّم حتى اتفقتا مع العقل على بذل ما في وسعهما لئلا يستنزفا الجسدَ والفكر مزيدا، وباركهما القلب متعذّرا بساعة إيقافه الخاصة، فهو لا يعرف للوقت وِحدةً بعد، ولا يريد أن يعترف بهما… لديه مشكلة مع السيادة؛ إذ يفضِّل ألا يقوده ما لا يميل إليه، ولن يتنازل لأي عضو حتى لو كان طيف استعارة.
القلب ضالٌّ يحاول الهداية أبدًا، وكذلك القصة.
القصص التي لن تنصفنا بالحقيقة
العين تجعل للقصة مصدرا مختلفا كلما تناولها اللسان.
يُحكى في أدبيات متخيلة أن الكائن الأول عضّ لسانه حين ابتلعَ لقمته الأولى. العين التي آزرتها اليدُ لاستعجال اللقمة؛ كادت أن تخرج من محجرها حين وقعت في أول غصة. لم تعرف اليد كيف تتصرَّف بأكثر من ضرب الفم. أحسَّ الفم بالإهانة فحاول إخراج كل ما مرَّ من خلاله. المعدة كانت أشدهم حرصًا على الاحتفاظ بما وصلها، ولم يجد بُدًّا -ذلك الجسد المتورط بأوَّليته- من دفع دموعه بغصات وشهقات تترى أفقدتْ التعدادَ صوابه معها.
يُحكى أنَّ ذلك الكائن صار يضحك كلما تكرر الموقف مع غيره. يعجبه تصدير الحكاية كل مرة إلى الآخرين؛ يلهِمه ابتكارهم لأبجديات متفاوتة في الانفعال، حيث تُحيي الدهشةُ تجربته كل مرة بقصة جديدة. وهكذا كانت القصة الأولى تنسخ نفسها بالإزالة والتكرار، وبالمحو والإثبات… فحاكَتْها بقية القصص إقرارا بالسبق والجودة.
المسيرة الأولى يُحتَفى بها، كالنظرة الأولى واللقمة الأولى والكلمة الأولى.
والقصة كذلك… إذ لم تخرج عن النص مرة واحدة بأكثر من توالدٍ لا نهائي من الحيوات.
تضمن القصةُ الحياةَ بذلك؛ كلما رأتها عين جديدة… وما أجمل الحياة!
ما نراه بعين واحدة
تتفضَّلُ العينُ بإسباغ رداء واحد على ما تراه، دون الحاجة إلى إعادة النظر والبحث عن صحة قرارها في انعكاسات المرايا: فتُلبِسُ الشيءَ أكمامًا تناسبه… ياقة مرتفعة أو معدومة كما تتطلَّبها الحقيقةُ، قماش مهترئ، قماش شفاف، وآخر ثقيل حين يتبدَّل للاستعمال فصلٌ…
الطولُ المناسب للرداء لا يبتعد كثيرا عما تراه العين، فحين تفضّلُ العينُ نصفَ الحقيقة؛ ستقصِّرُ الثوبَ قليلا أو كثيرا، أو ستُظهِرُ شيئا من اليدين والساقين، ولعلَّ بعضا من الظهر أو البطن يخطف الأنظار متباهيا بسطوة حضوره… التكشُّف يغري بالحقيقة لتراوغ نفسها لأن بعض الوضوح مملّ.
وحين تفضِّل العينُ الحقائقَ عامة مطواعة لأفكار شتى؛ فستجعلها عائمةً في ثياب لا تصفها، وأحيانا تخفيها بالطبقات وأنواع متعددة من القماش… أما مع الحقائق العارية؛ ففجاجة المنظر لا تنتظر قماشا. العريُّ قسوةُ الحقيقة في نفسها، أو تجلٍّ غير مبالٍ بالأعين كلها.
الرداءُ قصةُ لحظةٍ ما، والخزائن تفيض بالملابس حدَّ نسيانها… المرايا لا تلاحق أحدا، والكسولين المعتمدين على حقائق غيرهم يتسوّلون أرديةً بالية.
لا ملابس بالغة التأنق في المكبّات… وتظلّ الحقيقة بمقاسها الدقيق وردائها المناسب عزيزةً على طرحها في السوق عيانًا.
كذلك بعض القصص… تظل متنازَعة بين أردية كثيرة حتى تجد نفسها، وقد تتنكَّر حدَّ الهوية في أشد حالاتها التباسا. وحدها العين النافذة من سيُحسِن تقييم الموقف من نظرة فاحصة. وذلك أقل حظًّا من إيجاد اللبْس الملائم.
قال الكائن الأول ذلك في أدبيات متخيلة؛ أنَّ العين أصل الشيء، ولذلك احتاجت إلى اختراعٍ كالمرآة لترى نفسها.
نجوى العتيبي، كاتبة وباحثة سعودية، صدرت لها رواية (رفُّ اليوم، ما لم يستطع السيد الحصول عليه)، ونُشرت لها قصة (أسئلة اليدين) في منصة روى الإلكترونية. كتبت بعض المقالات والقصص في أخبار الأدب ومجلة القافلة، ومجلة النص الجديد بنسختها الرقمية الجديدة.