حساء اللفت
نجوى بن شتوان
ربما لا تتذكر هذه الحادثة وأنت طفل صغير، لكنها حدثت لك بالفعل وفي الصغر تحدث أشياء كثيرة للإنسان لا يفهمها ولا يعيها ثم لا يعود يتذكرها بتاتاً لأنه لم يفهمها أو يعيها كلية.
كان يوم أربعاء ما بعد الظهر، والمطر لم يتوقف عن الهطول منذ ليلتين، وقد شلت الحركة تمامًا في القرية الواقعة على هضبة عظيمة من هضاب ابروتزو، وقطعت الأوحال الطرق الموصلة إليها. عاشت البلدة لأيام من دون بلدية بعد أن غاص مبناها في المياه، وغمر الطابق السفلي تماماً، ولم تعد تلحظ منه الصور والشعارات المرسومة على الجدران الخارجية، واستحال خروج العمدة وموظفة الأرشيف وهما عادة آخر من يغادر البلدية في يوم العمل. كانا ينظران من نافذة الطابق العلوي ويمسحان عنها الغبش، لعل المطر يتوقف و يحصلان على المساعدة.
ارتفع منسوب المياه في شوارع البلدة وأوحلت البساتين وغابة الصنوبر الممتدة على اتساع كبير حتى السياج المحيط بالمقبرة القديمة.
استحال على الناس الخروج من بيوتهم لشراء احتياجاتهم الأساسية، وقد أعانهم على البقاء في الداخل ما خزنوه من الطعام والشراب عند تساقط الثلوج وتقطع السبل.
نحن أيضاً كانت لدينا مؤونة أشهر في الكنتينا(القبو)، وقد أحسنت الجدة إيميليا بتخزين ما يستحق التخزين من اللحم المقدد والبندورة المجففة والشحم والزيت واللفت وبعض الخضار.
الجدة سليلة هذا المكان، وقد اعتادت تقلبات الطقس في أكتوبر مع دخول فصل جديد من المطر مصحوباً بالضباب بداية نوفمبر.
استقبلت فيضان الأمطار بهدوء منشغلة بغزل الصوف وإعداده في كرات. كانت قد اتفقت مع "لوكا بنينو" في ضيعة فرنكا فيلا على بيعها له غير مصبوغة، لولا أن هطول المطر أخر إتمام الصفقة.
كان والدك يقرأ في المكتبة وكنت أنت نائماً في سريرك في حجرة الجدة وهي كما قلت لك تجلس على مقعدها الخشبي المتين قرب المدفئة تغزل بمغزلها الخشبي وتراقب همي المطر وتنصح بطهي حساء اللفت لطرد أشباح البرد. لفائدته العظيمة للصحة وسرعته النافذة في تدفئة أجسادنا وجعلنا أقوياء.
كنا في البيت القديم في شارع كردوتشي ولم ننتقل بعد إلى بيتنا هذا.
فجأة فتحت النافذة على مصراعيها وأسقطت القوة التي دفعتها صورة جدك وأصيص إكليل الجبل والحبق عن حافة النافذة.
وإذ بعصابة من الكائنات الفضائية ترتدي زياً رمادياً لامعاً ينزلق الماء من فوقه تدخل من النافذة وتتجه إلى سريرك.
كانوا يريدون اختطافك وجعلك طفلاً لهم.
يا إلهي كلما تذكرت ذلك الموقف اقشعر بدني يا طفلي الحبيب.
بكينا أنا ووالدك كثيراً حتى غرق البيت في دموعنا. يمكنك رؤية ما فعلته دموعنا بأرجل الأثاث، لقد تآكل بملوحتها وملحت أيضاً يخنة البطاطس واللحم التي اعددتها للغداء بدلاً من حساء اللفت الذي نشمئز منه ونزدري من يأكلونه.
تخيل أن كلاب الشارع لم تقترب من يخنة البطاطس واللحم المالحة عندما ألقينا بها في القمامة لطعمها الغريب ورائحة الحرقة فيها. كأن الرب عاقبنا على تكبرنا على نعمه واستبدالنا طعام قدره لنا بطعام قدرناه لأنفسنا.
يا لجهل الإنسان وخضوعه للهوى بني!
فعلنا ما بوسعنا أنا ووالدك لإحباط هجوم الدخلاء. تشبثنا بثيابهم ودفعنا بعضهم من فوق الدرابزين ووضعناك في سرير الجدة الكبير الذي لا يخرج من الباب لكيلا يأخذونك، إذ لم تكن أيديهم كأيدينا تستطيع الإمساك بأي شيء بسهولة. كان لابد أن يقبضوا على مايريدون القبض عليه في وعاء كبير.
ظللنا نقاومهم حتى نزعت أظافرنا من لحمنا ونحن نصيح: الغوث الغوث بأعلى ما تستطيعه حناجرنا من صياح ولم يسمعنا أحد، فصوت المطر وأجراس الكنيسة غلبا على الأصوات كافة، وكان الجيران القريبين يضعون سماعات عازلة من أجل الألعاب الإلكترونية. فتباً للألعاب الإلكترونية بجميع أنواعها وتباً لمن اخترعها ولليوم الذي عرفناها فيه.
كنا نستنجد ولم يمنعنا الصراخ القوي من توسلهم والكلام معهم حتى وإن كانوا لا يفهمون لغتنا ولا يتكلمونها.
قلنا لهم:
اتركوا طفلنا البريء الجميل هذا ولا تأخذوه، خذوا أحدنا بدلاً منه إذا كان لابد لكم من أخذ رهينة بشرية، إن هذا الطفل مؤدب وإن كان يصعب إقناعه بتناول وجبته من حساء اللفت وهو مجتهد في دروسه ومعلمته تمدحه دائماً ويكتب واجباته دون أية متاعب لنا، إنه مطيع، يأكل ما يقدم إليه من طعام ويؤدي صلاة شكر كما ينبغي، ليس مثل شقيقته الشقية ماريا جويا التي جلبت لنا المتاعب بسلوكها الشرس وقلة تهذيبها.
اسألوا الجدة إيميليا إن أردتم، فبيتها في مقدمة القرية. لونه أصفر وليس به بلكونة زهرية، رقمه 65 و يقع في شارع دل كوللي.
كانت جدتك تتناول حساء اللفت المتبقي من عشاء الأمس عندما هاجمنا الفضائيون، فتركت عشاءها وقاتلتهم وهزمتهم واستعادتك منهم في اللحظة التي ما عاد لنا فيها أنا وأبيك أمل من استعادتك.
وضعت جدتك ساقها في طريقهم فاعترضتهم، وأسقطتهم بها وقد أمدها حساء اللفت بالقوة اللازمة لفعل ذلك ولقتالهم بلوحي مغزل عاديين، ففروا كما جاءوا والتقطتك هي في حضنها وأعادتك إلينا.
كنت نائماً كالملاك الطاهر في دعة لم يمسسك سوء، يملأ وجهك النور والسكينة وكأن قوة رعتك ولم تجعلك تشعر بجريمة الفضائيين الشنيعة بحقك وحق طفولتك البريئة.
آه يا طفلي الحبيب، لولا قوة جدتك التي استفادتها من حساء اللفت المتراكم في عروقها ما أمكننا استعادتك منهم.
فهل تريد الآن أن يعودوا و يخطفونك من جديد لأنك لا تريد أن تأكل حساء اللفت اللذيذ؟
تذكر أن الجدة التي انقذتك في المرة الماضية ماعادت هنا وبيتها بعيد جداَ عن بيتنا.
آنذاك كان صوت المطر قد خف قليلاً في الخارج، ودقت ساعة الكنيسة الكبيرة مشيرة إلى منتصف النهار. سمع صوت ماريا جويا الصغيرة تركل بقدميها الكلب الوديع النائم على بساط أمام المدفأة وتحثه على النهوض، وربما بدأت عملية إخراج العمدة وموظفة الأرشيف من مقر البلدية بواسطة رافعة بناء.
نظر الطفل صامتاً لطبق حساء اللفت أمامه وقبل أن ينزل يديه إلى حجره وضع الملعقة بجانب الصحن في أدب جم وقال لأمه:
لا مناص إذن من انتظار الفضائيين!
نجوى بن شتوان هي أكاديمية وروائية ليبية تكتب القصة القصيرة والرواية. حازت على عدة جوائز منها جائزة جون فانتي الإيطالية لعام 2023. صدرت لها 5 روايات وعدة مجموعات قصصية. وصلت روايتها( زراريب العبيد) للقائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية العالمية ( البوكر) عام 2017، ووصلت روايتها ( كونشيرتو قورينا إدواردو) القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2023.