top of page

من لا يملك عدوًا

علي سباع


نحن أسرى الحرب، لا نملك عدوّا، ولا ننتظر وطنًا، ونخرج من منازلنا يوميًا كما لو كنا في نزهةٍ، ويخرج خلفنا الشعور بالوحدةِ، يهش بعصاه قطعاننا الهاربةِ، ويقودنا حتى المغيب، بين الأزقة والبيوت، بين السفوح والسهول، كأنه يسكب لنا حياة في فنجان مقلوب، لكنه يظل جريئًا في إشعاله النار أمام الرياح، لا نعرفُ في المساء إن كانت هذا النار تؤدي بمجازها إلى الكراهية أو الحب؟
وعلى كثرة من سالوا على جدران الأيام يظل أقربُ شعورٍ في الحيطة والحذر هو مراقبة شرخ يشبه البرق ينزل من أعلى الرأس إلى القدم، ثم يمرّ بآثارنا محاولا الوصول إلى منابع العاطفة، حتى يصطدم بسؤال عميق، لا يعرف إن كانت مجرد جمرة وستنطفئ أم شجاعةً مصحوبة بالنسيان.
بالطبع، أكبرُ من يدٍ تمسّد التراب، وألطف من صحوات البراعم، أبعد من عيون الصيادين، وأقرب من ضحيّة تلوّح بالنجاة، وربتنا مرة أخرى على كتف التراب، كأنّ الأرض ستنامُ، بذورنا مغمورة في الجروح، و أشلاءنا مختبئة في عيون الغيب، ونحن نحسب كل لوحةٍ يمكنها أن تكون ممرّا آمناً، لهذا كالديكةِ في أنصاف الليل، قلّدنا الذئاب، وهجمنا على فزّاعاتنا في القصائد، هاجمنا قبائل على أعشاش الغائبين، بآيات وصلوات ومناجاة لعلّ الشاهد يكون هناك فتنفتح حجبٌ وتنكشف برودةُ الجثةِ عن حرارة البيوت الآمنة، والأسرةُ المرتّبة كجيوش ينتظرون طلقة الزناد الاولى، ثم حين تنطلق الرصاصة، يعودون لمنازلهم فارغين من العاطفة.
والأمهات هناك لا ينتظرننا، والأبناء لا ينظرون إلى صورنا الممزقة، الأشياء لا تحمل رائحة الرسائل الصفراء، ولا أكواباً مؤطرةً بالصمت، كنّا سنولد مرةً أخرى كما تقول النسور وهي تدفع أبنائها للطيران، لكننا وجدنا ذلك الشرخ وهو يتفرّعُ على أجسادنا، والباعةُ يسألوننا عن مقاس الغيب، وعن شعورنا كلما انتظرنا أن تغمرنا العودة بلباسِ الفرح، كأن كل شيء فينا قابل للاستهلاك، حتى تجربة الغفران والصفح.
فلنسالم مرة واحدةً، ولو انكسر الكأس، وماتَت النسور، ولو ظلت الأعشاش فارغة، وأيقظنا الديك، وفرّت الذئاب، فلنسالم لأننا ولدنا هكذا ناقصين، والحب وحده من جعلنا نكابر.


علي سباع هو شاعر سعودي من المنطقة الشرقية، جزيرة تاروت - له ثلاثة دواوين شعرية "بأبواب المدينة كلها"، "نزهة الهارب ومشيئة الغريب" ، و "شاهدا على نفسي".يمكن متابعة حسابه على تويتر: @vet1alis

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2024.

 جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page