top of page

احذر في المستقبل من الكتاب المستعمل

حنان العزاز

قليل من الملذات عند محبي القراءة وعاشقي جمع الكتب تضاهي لذة الإبحار في المكتبات. وربما بدأت الكتب الإلكترونية في الزحف إلى قلوب القراء لسرعة وصولها للقارئ الشغف وسهولة تخزينها في ما قد يضيق بها من المساحات، إلا أن فئة من الناس لا ترى بديلا عن الكتاب الورقي، إذ يضمونه بين أيديهم ويضمهم بين صفحاته ويتلذذون برائحة الحبر التي تفوح من بين جنباته. فإن كانت صفحاته قد شهدت مرور الزمان عليها وتراكم ذرات الغبار، صاحبه يتلذذ برائحة أزكى لا يقدرها إلا عاشق الكتب المتيم الذي يطمئن فؤاده بهذه الرائحة كما وأنه يشتم روائح البخور والزهور.
لكن هناك نوع فريد من الكتب له رائحة تفوق الكتاب الذي طالت إقامته عند صاحبه، ألا وهو "الكتاب المستعمل" الذي انتقل من يد إلى يد ومن دار إلى دار، فهو يحمل جزءا من روح كل من قرأه، وله رائحة ليست من الحبر والغبار فقط ولكنها روائح البيوت الفريدة بطِيبها ونتِنها. تلك الرائحة تخلق له شخصية متفردة عن محتويات الكتاب وتبني له تاريخا مميزا يتعدى الرائحة. يظهر تفرد الكتاب المستعمل بصفحة مطوية هنا وهناك، أو شخطة قلم أو الكثير من السطور والملاحظات بين السطور التي تعكس آراء القارئ السابق وتأملاته، وتضيف زوايا أخرى لقراءة الكتاب. وربما لا يحمل الكتاب من الأثر إلا خدوشا بسيطة لا ترى حين يكون المالك لطيفا يحمل الكتاب ويضعه برقة، كما يحمل المولود الصغير. وأحيانا يبدو الكتاب المستعمل كالجديد لأنه عانى من الوحدة منذ شرائه فلم تر صفحاته النور بعد ولم يشرب صاحبه من رحيق ما فيه.
وكل هذه الأحوال للكتاب المستعمل تمر علي ككلمات مختصرة مبهمة تلمّح لي بتاريخ الكتاب وقصة حياته حين أتصفح موقعا مشهورا لبيع الكتب يعرض شراء نسخ مستعملة كإحدى خيارات البيع. تتراءى أمامي الكلمات: "جديد"، "كالجديد"، "جديد تقريبا"، "يوجد عليه ملاحظات قليلة"، "نسخة ممزقة"، وأتلقى أنا هذه العبارات التي تصف الكتاب كمن يتلقى النميمة في صاحبه، فلا يصدقها و لا يكذبها إلا حين يرى أثرها رأي العين.
وشراء الكتب من المواقع الإلكترونية للكتب المستعملة على الخصوص هو مغامرة صغيرة إذ لا ندري عن حال ما سيصلنا إن كان كما وُصف أم هو أفضل أو أسوأ. وهذه المغامرة أيضا من الهوايات التي يبقيها مقتني الكتب سرا، إذ أنهم مقامرين محترفين لا يهمهم فقط توفير المال بشراء الكتاب المستعمل بجزء من سعره الأصلي، بل هم مدمنين على ترقب ما سيطل عليهم ليخبرهم أنهم شروه بثمن بخس أو أنهم قد بالغوا في دفع ثمن كتاب مهلهل يجاهدون في التقاط صفحاته التي تتساقط كأوراق الخريف أو كتاب عانى من الإساءة ومزقت صفحاته أو تبقع بألوان الحبر أو قلم التظليل الفاقع لونه لكن لا يسر الناظرين.
تلك لعبة الحظ التي مارستها كثيرا حين إنجازي لبحث الدكتوراه بشراء الكتاب المستعمل؛ أولا لتوفير المال، وثانيا لأن نسخ بعض الروايات التي أردت تضمينها في البحث لم تطبع منذ السبعينات والثمانينات الميلادية والتي كانت بمثابة الكنز الذي أروم للحصول عليه بأي ثمن لإكمال عملي. ولم يصادفني في رحلة اقتناء الكتب المستعملة ما هو خارج عن المألوف إلا مرة واحدة واجهت فيها أكثر مما قامرت عليه.
تطلب الفصل الذي كنت أكتبه ذلك الحين رواية أمريكية بعنوان: "فم ممتلئ بالهواء" والمنشورة في 2003، تصفحت الموقع بحثا عنها ووجدت نسخة في إحدى المكتبات في الولايات المتحدة فاضطررت إلى تحمل تكلفة شحنها إلى بريطانيا زيادة على ثمن الكتاب. انتظرت. وصلت الشحنة الموعودة في صندوق ليحفظ محتواها من حوادث النقل، وتلقفته كمن يتلقف وجبة شهية وقد قرصه الجوع. أخيرا سأكمل العمل على الفصل بعد طول انتظار.
كانت المفاجأة حين فتحت الصندوق ليواجهني العنوان المسطور على غلاف الكتاب: "فم ممتليء بالريش"، أي ريش يا أما***؟! انقبض صدري حين تيقنت أن الفصل سيتأخر فوق التأخير. هذه ليست الرواية التي طلبتها. أمسكت بالنسخة التي بدت لي جديدة تقريبا في حالة أحسن مما وعدت بها وأعدت التحديق في العنوان لعل عيناي خانتني وعاندتني، لكن للأسف لم أر غير الريش. بدأت في تقليب الصفحات إذ إن الكتاب وصلني، ولن يضير التعرف على هذا الكتاب المتطفل الذي سيعود إلى وطنه بعد أن رفعت للموقع طلب استرداد وإحضار النسخة الصحيحة. بدأت صفحات الكتاب تدفع بعضها بعضا محمولة على أناملي، وأطلعتني أولى الصفحات المكتوبة بنثر ممل أن الشخصية الرئيسية تعيش في مزرعة. وحين انتهيت من الفصل الأول القصير وبدأت في الثاني تفاجأت برسالة مخطوطة على ورقة صغيرة صفراء دسها أحد قراء الكتاب بين الصفحات بشكل مدروس إذ نوى نية صادقة أن تكون تلك الورقة بمثابة بوابة يقف عليها حارس يحرس القارئ من عفاريت ستنطلق مخترقة روحه حين يتعدى الصفحة التي وُضعت فيها الورقة.
كتبت الرسالة على هيئة تحذير: "عزيزي القارئ، إني أحذرك من الخوض في قراءة هذا الكتاب بعد هذه الصفحة، هذا الكتاب سيطلعك على جانب صادم من الحياة ولا أظن أن شخصا طبيعيا يريد الاطلاع عليه، أرجوك توقف عن القراءة!"
تعجبت من الرسالة وشككت في النوايا. إن كان الكتاب مليئا بالشر، فلم تتخلص منه؟ لماذا أعدتَ بيعه؟ هل كاتب الرسالة هو المالك الأصلي ويريد أن يمزح على المالك الجديد؟ لماذا؟ أجمل ما في هذا النوع من المزاح رؤية حيرة الآخر وتعجبه وهو لن يراني ولن أراه؟ هل هو قارئ لا يحق له التخلص من الكتاب فأراد عمل خير بالتحذير من محتواه؟ لا أعلم ولن أعلم إلا بالاكتشاف. صفق لي شيطان الفضول وشجعني على استكمال الكتاب، فلكلٍ رأي وزاوية للقراءة، وأنا اتخذت من القراء حرفة وقرأت روايات كثيرة صادمة وباعثة على الكآبة، فما الذي سيصدم المخضرمين في القراءة أمثالي ممن قرأ عن القتل والظلم والتعذيب؟
لا شيء.
وضعت الرسالة التحذيرية جانبا وأمعنت في القراءة. استمرت الشخصية في بعث الملل في نفسي وتساءلت إن كان التحذير من شرور الملل وعواقبه. لسبب ما ولا أدري إن كان من إيحاء الرسالة شعرت بأن السرد شابته ظلمة، إذ إن الشخصية انتقلت من وصف المزرعة وحياة الريف وتدرجت لوصف شعور غريب تجاه الدجاج في المزرعة. حاولت استكمال القراءة إلى أن استشفيت سبب التحذير وأطل علي من بين سطور الكتاب نوع من التجارب الإنسانية الشاذة لم أتوقع في أحلامي وجوده أو الاطلاع عليه. عافت نفسي التي شكلتها ثقافتي ما قرأت وصفعت غلاف الكتب ببعضه موكلة ربي بأن يحاسب الكاتب والناشر وكل من أعان على تسجيل تلك الأمراض كأدب. رثيت الأشجار التي قطعت وعجنت وسُطِّحت كورق طبع عليه هذا الكتاب الشنيع النوايا. لم يكن عقلي وروحي مستعدان للتعامل مع ما قرأت باعتباره تجربة بشرية بعد قراءة الأدب الراقي والكلاسيكيات التي تحوي أسمى الخبرات والقيم الإنسانية مثل…. حدث ما حدث وانتهى بي الزمن في تلك اللحظة للقراءة عن ممارسة الجنس مع الدجاج.
انتبهت بعد إغلاق الكتاب لرسالة التحذير التي يجب أن تعود للكتاب وتحذر غيري. ندمت أني طلبت إرجاع الكتاب لأن أمره لو عاد لي لأشعلت به النيران، ولكانت عيناي آخر ما سيقع على هذا الكتاب، لكنه سيعود من حيث أتى. أمسكت بالرسالة واحترت، هل أضعها في مكانها؟
فتحت الغلاف ووضعتها في أول الكتاب، بين الغلاف وصفحة العنوان.


حنان العزاز هي أستاذ مساعد في قسم الأدب الإنجليزي في كلية اللغات بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن و باحثة في الأدب الإنجليزي و الدراسات الثقافية و الأدب المقارن. يمكن متابعة حسابها على تويتر: @um22w22

© All Rights Reserved. Sard Adabi Publishing House 2024.

 جميع حقوق النسخ محفوظة لدار سرد أدبي للنشر©

bottom of page