القصاصة الأخيرة لعيسى دراج
زيد الحمداني
يقول أبي الرجال لا يبكون، وإذا بكوا فبصمت وخلف أبواب مغلقة. لكنني شاهدته ذلك المساء، واقفا خلف باب مفتوح، يبكي بصوت يسمعه سابع جار. سمعت بكاءه وأنا أعبر مجازا يمتد بين غرفتي وغرفته، لم يكن وحده، كانت أمي بالقرب منه، تمسك بكلتا يديه، تواسيه وتبكي معه.
"آه يا عيسى، آه يا عيسى، لا تستحق هذه النهاية، لعنة الله على المجرمين، لعنة الله على المجرمين."
سمعت كلمات أبي المتسللة من وسط نشيجه صدفة ودون قصد التنصت أو الفضول، وأدركت أن مأساة تجري الآن وثمة قريب أو صديق سينتهي أمره أو انتهى فعلا. "من هو عيسى؟" و"لماذا سينتهي؟" و"من هم المجرمون؟" أعوامي العشرة لم تتح لي فرصة التدخل وطرح هكذا أسئلة حساسة، فكتمت أسئلتي في صدري، وظلت نهاية عيسى الغامضة طيرا مذبوحا في ذاكرة الصبا.
نسيت بمرور الزمن ما حدث ذلك المساء، أما اسم عيسى فكان يجد صدى خفيا ومشوبا بالحزن كلما سمعته في البيت أو المدرسة أو الشارع. غير أنه تسلل إلي صدفة، وبعد عدة سنوات، في ليلة من ليالي الشتاء الطويلة. فبعد أن نام جميع من في الدار، تسللت بهدوء إلى صالة بيتنا، واختليت بمكتبة أبي. مكتبة عملاقة، تمتد من أرضية الصالة حتى سقفها، وتفصل غرف النوم عن باقي منافع البيت. كنت مدمنا أول الشباب على القراءة في كل فنون المعرفة، ومكتبة أبي حقل تجاربي، أفتح كتابا في الفلسفة، ثم كتابا في السياسة، وبعدها رواية عالمية. فوضى لذيذة، لا تنتهي إلا عند أذان الفجر. في تلك الليلة الليلاء وقع بين يدي كتاب سيظل عنوانه حاضرا معي أمدا طويلا، حتى الآن وأنا في مشارف الخمسين من عمري. غلاف الكتاب عبارة عن صورة لمجموعة إبل تقطع صحراء قاحلة. ويبدو في الأفق برجان معدنيان لحمل أسلاك الطاقة الكهربائية. عنوان الكتاب: القافلة.. قصة الشرق الأوسط، تأليف كارلتون كون.
جذبت الكتاب من الرف، وأزحت بنفخة قوية ترابا يغفو على غلافه. فتحت الصفحة الأولى، تأملتها مليا، ولم أعبرها بسهولة. ففي أعلى الصفحة من جهة اليسار قرأت كتابة جميلة بخط اليد، وبحبر أزرق أكل الدهر على زرقته وشرب: شراؤه ومقتناه في يوم صعب من أيام العراق، يوم سقوط الملكية، ١٤ تموز ١٩٥٨. وتحت الكتابة توقيع صغير: عيسى دراج.
أعددت كوب شاي، وانتبذت ركنا قصيا من الصالة، قرب المدفأة، وبدأت بقراءة الكتاب، توغلت في فصوله، لغة تنساب انسياب ماء زلال في ساقية من بلور، وقعت في دائرة اللذة، وذهلت عن الوقت، وما زاد من ذهولي قصاصات صغيرة، موزعة هنا وهناك بين فصول الكتاب، قصاصة تحيلك لمرجع تاريخي، وقصاصة تحثك على فتح خارطة عمرها ألف عام، كاتب القصاصات كريم في إرشاداته، موهوب في خطه، وأسفل كل قصاصة يضع اسمه بين قوسين لئلا يخلط قارئ الكتاب بين كلمات المؤلف كون، وكلمات صاحب القصاصات.
تجرأت صباح اليوم التالي وسألت أبي: "هل صاحب القصاصات داخل كتاب القافلة هو نفسه عيسى المغدور؟"
"نعم هو." كان جوابه مقتضبا، ولم يتح لي فرصة مزيد من الأسئلة. غير أن فضولي كانت تشبعه نتف عابرة عن عيسى وأحواله سمعتها من أمي في مناسبات مختلفة.
لم ينته الأمر بكتاب القافلة. عثرت في الليالي التالية على كتب أخرى تمتلئ بقصاصات عيسى، قرأتها قصاصة تلو قصاصة، وكأنها هي الكتاب الأصلي. وددت لو أني جمعت القصاصات ونشرتها في كتاب، لكن لا بد من أخذ رخصة الورثة، أو الوريثة الوحيدة التي تستقر في بغداد، ولم تغادرها كما غادر باقي أفراد العائلة بعد حرب الخليج وتحرير الكويت. الوريثة التي شاء قدر جميل أن ألتقي بها صباح يوم تشريني لطيف البرودة في السنة الثانية بعد الحرب.
"سأذهب لزيارة ست لبنى، ترجتني أن أعمل قائمة للكتب في مكتبة والدها، أيعجبك أن تأتي معي وتساعدني؟ أعرف هوسك بالكتب والمكتبات!" سألني أبي وهو يسكب شاي الصباح في استكانه. هززت رأسي بالموافقة فورا، وكأنها دعوة لحفلة أسطورية فيها مئات الغواني الحسان. كل حسناء كتاب يقف بدلال على رف من رفوف المكتبة، وأنا بين الكتب ملاح تائه لا يدري في أي وجهة يجد بر الأمان.
في الطريق إلى بيت عيسى دراج كانت شوارع بغداد خائفة من شيء ما، حرب قادمة، تناحرات سياسية بين أفراد من قبيلة الرئيس، أو تزايد عصابات السطو والجريمة. فالأيام قاتمة، والأحوال الاقتصادية في تدهور، والناس أصابهم اليأس من تحسن ظروف معيشتهم. الشيء الوحيد الذي كان في حالة ممتازة هو جداريات السيد الرئيس، ولافتات معدنية خطت عليها أقواله: "لا تستفز الأفعى قبل أن تبيت النية على قتلها." و"نريد من العراقي أن يكون ضميره هو الرقيب." وغيرها من الأقوال الممزوجة بالريبة والتخوين. ولكن من يجرؤ على التعليق أو النقد؟ أو حتى إطالة النظر. أما أنا فكنت أنظر من نافذة السيارة، ولا أرى في الأفق غير رفوف مليئة بالكتب. كنت في عالم آخر؛ عالم عيسى دراج.
وصلنا منطقة اليرموك، ودخلنا شوارعها الأربعة. كان بيت الأستاذ عيسى في فرع جانبي يتصل بالشوارع الرئيسية. تظلله أشجار أوكالبتوس عملاقة، تقف كالبنيان المرصوص في واجهة البيت. وصلنا إلى مقصدنا. أوقف أبي السيارة في الكراج الخارجي. وحين نزلنا غمرتنا رائحة ورود عبقة. وقبل أن نصل إلى البوابة الرئيسية لمحت سيدة ثلاثينية، تسقي حديقة البيت من وراء السياج. حالما رأتنا ارتسمت على وجهها الخمري ابتسامة واسعة. اقتربت أكثر وصاحت: "أهلا وسهلا، تفضلوا، تفضلوا، الباب مفتوح." دخل أبي ودخلت خلفه. تركت السيدة أنبوب الماء البلاستيكي الذي كان بيدها وصافحت أبي بحرارة، ثم انحنت وقبلتني من وجنتي قبلتين خفيفتين. شعرت بانتعاش حين غمرتني رائحة وجهها وملابسها، انتعاش من يتنفس في سلة مليئة بالورد.
اجتزنا الباب الخشبي المؤدي إلى داخل البيت. التفتت السيدة وقالت: "هذه غرفة الضيوف، باردة دائما. أفضل أن نجلس في غرفة المكتب." لم يعقب أبي بشيء، وسرنا خلفها في ممر ضيق انتهى إلى سلم انتقل بنا إلى الطابق العلوي. على الجدار المحاذي للسلم وقعت عيني على صور فوتوغرافية معلقة على الحائط، بعضها بالأبيض والأسود، وبعضها بالألوان. في إحدى الصور يجلس رجل ستيني، توقعت أنه الأستاذ عيسى، على مكتب فخم. ويجلس أمامه أبي، كانا مبتسمين وبينهما على الطاولة حفنة كتب، وفنجانا قهوة. شعرت وأنا أصعد السلم وقبل أن أدخل المكتب بأنني لست غريبا عن هذا المنزل، حتى الرائحة لا تبدو غريبة عني، وفكرت حينها بأن لكل مكان روح تتماهى مع ساكنيه، وتجعله ينطق بلغتهم، ويكبر معهم، يشهد أفراحهم وانكساراتهم، ويعاصر أيامهم وأعوامهم، حتى إنه يشيخ مثلهم، ثم يموت حين تغادره الروح. لذا فبعض الأماكن موحشة كالمقابر، وبعضها أليفة كأنها مشيدة من تراب الأحلام.
كانت غرفة المكتب التي صعدنا إليها تشبه حلما من العصر الفيكتوري، وتبعث في الداخلين توقا شديدا للمكوث والتأمل في جدرانها. جدار تغطيه مكتبة من خشب الماهوجني عامرة بالكتب المجلدة والكتب ذات الأغلفة الورقية الخفيفة، وجدار آخر في وسطه نافذة مستطيلة تطل على حديقة تمتلئ بشجيرات الرازقي والكاردينيا، وجدار تستند إليه كنبة طويلة وأنيقة، تذكرك بأثاث منزل من منازل روايات شارلوت برونتي وجين أوستن.
جلس أبي على طرف الكنبة، وجلست سيدة المنزل على طرفها الآخر. أما أنا فكنت في الجهة المقابلة لهما، غارق بين الكتب، أسجل عناوينها، وأضع لكل عنوان رقما. كانت عيناي واسعتين كعيني سمكة، تلتقطان المشهد بزاوية لا تقل عن مائة وثمانين درجة. أما أذني فتستقبل حديثهما دون عناء.
"سنوات وأنت ناسينا يا دكتور، لم كل هذه الغيبة يا عزيزي؟" عتاب هادئ وجهته لأبي، ولمحت، وهي تتكلم، نظرة خجولة في عينيها اللتين كانتا تلمعان كلما سقطت عليهما أشعة الشمس.
"عملي في العيادة يأخذ كل وقتي لبنى العزيزة، وأنت أعرف بأحوال البلد. الأوضاع الاقتصادية من سيئ إلى أسوأ، والسرقات المنتشرة في بغداد أصبحت تؤرقنا في البيت ومحل العمل. لكنك على بالي دائما، وأقول مع نفسي سنلتقي يوما."
صبت السيدة كأس شاي ووضعته على طاولة صغيرة قرب المكتبة مع صحن فيه كعك. وقالت لي: "هذا صنع يدي حبيبي، أتمنى أن يعجبك."
عادت إلى مكانها جنب أبي. وقبل أن تجلس وقفت أمام جهاز تسجيل ذي إطار خشبي غامق، واختارت شريط مسجل من بين صف أشرطة كانت في حافظة بلاستيكية خلف المسجل. "هذا شريطك، أحتفظ به منذ آخر مرة زرت فيها العيادة مع والدي، يومها أصررت على أن تهديني إياه، هل تتذكر محتوى الشريط؟" كان وجه أبي يزداد صفاء وهو ينظر إليها، وبدأت التجاعيد التي على جانبي عينيه تصغر شيئا فشيئا، ثم اختفت تماما. قال:
"ومن ينسى فيروز وأغنية كيفك أنت لبنى الغالية؟"
"كل عيادات الأسنان تذكرني بالألم، إلا عيادتك تذكرني بفيروز!" قالت ذلك بنبرة فيها مزيج من إعجاب وامتنان.. ثم واصلت: "تعرف دكتور؟ كل شيء تغير بعد رحيل أبي إلا الحديقة، فهي المكان الوحيد الذي لم يفقد حيويته أبدا، أتذكر جلوسكما هناك عصاري الجمعة، وقهوتك التي تشبه دابة بني إسرائيل؛ لا حلوة ولا مرة، لا فاتحة ولا غامقة، لا خفيفة ولا ثقيلة." ضحك أبي من طريقة وصفها لقهوته حتى أدمعت عيناه من الضحك. بصراحة، لم أجده بهذه السعادة منذ سنين.
كنت أختلس النظر إليهما بين الفينة والأخرى، تملكني إحساس أنهما غائبان عن الغرفة وعني، حاضران في ذاكرة نائية، ذاكرة تشبه مزارع البرتقال التي كنا نزورها ونحن صغار على ضفاف دجلة. لا تصل أيدينا الصغيرة إلى الثمر، لكن رائحة القداح في ورود البرتقال تبث في نفوسنا البهجة والفرح.
رن جرس الهاتف فجأة، قامت السيدة لترد، أما أبي فرفع رأسه والتقت عيناي بعينيه. وضع فنجان قهوته وترك الكنبة متجها صوبي. قال لي متهكما بصوت خافت: "أنت مشغول بالمكتبة وجرد الكتب لو مشغول معنا يا أستاذ؟" فتحت دفترا كان بين يدي ووضعته أمامه، وقلت له: "بابا أنا جردت نصف الكتب تقريبا. خذ راحتك، أنا لا أسمع غير صوت فيروز." رفع حاجبيه، وهز رأسه بطريقة ساخرة، لكنها سخرية لينة، كان يمارسها معنا عندما نمارس معه شقاوة بريئة.
وضعت السيدة سماعة الهاتف، واتجهت صوب المكتبة، رفعت جسدها على أطراف أصابعها لتصل إلى الرفوف العليا، جذبت من هناك مصحفا مغلفا بقماش أخضر عليه زخرفة إسلامية بديعة، ثم عادت إلى الكنبة، وانحنت قليلا حيث كان يجلس أبي، وصارا قاب قوسين أو أدنى. رجع هو إلى الوراء، وشعرت أنه أحس بخجل.
"هذا المصحف كان مع والدي حتى ساعة إعدامه، سلمتني إياه إدارة السجن، تفضل دكتور، هدية لك."
أخذ أبي المصحف، قربه من وجهه حتى لامس الغلاف الأخضر جبينه، ثم قبله مرتين، ووضعه على حافة الكنبة.
"لم لا تفتحه وتقرأ فيه قليلا؟ افتحه دكتور." قالت له السيدة بصوت فيه رجاء. امتثل أبي لطلبها وفتح المصحف وقرأ سورة الفاتحة بصوت مسموع. وقبل أن يغلق المصحف تسللت قصاصة من بين ثناياه وكادت أن تسقط أرضا. أمسك أبي القصاصة ونظر إلى السيدة متعجبا وكأنه يسألها "ما هذه؟"
"هذه آخر قصاصة تركها أبي في حياته. كتبها قبيل إعدامه بساعات، الخط صغير، والكتابة على وجهي الورقة، لربما لم يجد غيرها، فاضطر لتصغير خطه. الرسالة موجهة لي، وتعنيك أيضا، كنت أنتظر مجيئك لأسلمها لك يدا بيد، أنت أعز صديق لوالدي، وأنت ...." لم تستطع حبس دموعها، ودخلت بنوبة بكاء.
دس أبي القصاصة في قلب المصحف، وسحب منديلا ورقيا ناعما ووضعه في يد السيدة، لتجفف دموعها. حاولت أن أتظاهر بترتيب الكتب وتدوين عناوينها، لعلهما لا يشعران بالحرج، أما هي فهدأت قليلا بعد أن تناولت رشفة ماء.
كانت الشمس قد غابت للتو، عندما قرر أبي أننا تأخرنا كثيرا، وحان موعد عودتنا إلى البيت. وقفت السيدة على عتبة الباب الخارجي. عيناها تبرقان بريقا لامعا تحت ضوء عمود الإنارة. لوحت لنا مبتسمة وقالت: "أمانة يا دكتور كرر الزيارة، لا تطل الغيبة."
انطلقنا عائدين إلى البيت. كان أبي صامتا طوال الطريق، وكنت صامتا أيضا أقلب صفحات الدفتر الذي دونت فيه عناوين الكتب. وحين وصلنا استقبلتنا أمي بعصبية وقلق كعادتها في تلكم السنوات: "لم كل هذا التأخير؟ قلقت عليكما." احتفظ أبي بصمته، ولم يرد. أخذ معه المصحف إلى غرفة الضيوف، وجلس وحده لساعات. في الأيام التالية للزيارة بحثت عن المصحف في المكتبة وغرفة نوم أبي وفي كل مكان في البيت، لم أجد له أثرا، كان الفضول يحرضني على قراءة القصاصة الأخيرة لعيسى دراج. وظل الفضول يراودني فترة طويلة، حتى بعد أن تخرجت من الجامعة، وسافرت بحثا عن عمل.
مرت أعوام كثيرة جدا. طوحتني فيهن الحياة شرقا وغربا، وفرقتني عن أهلي ودياري. لكن مصحف عيسى أصر أن يظل ورثا عابرا من جيل إلى جيل، ومن مكتبة إلى أخرى. فبعد أن انتقل أبي إلى الرفيق الأعلى، ولحق بصاحبه عند الضفة الأخرى من الحياة، وكنت بعيدا عنه ساعة وفاته، وصلني المصحف داخل حقيبة فيها أوراق أبي الرسمية وصور عتيقة ورسائل غرامية وطوابع تذكارية. كان قماش المصحف بهيا مثل المرة الأولى التي شاهدته فيها، ولونه الأخضر مازال محتفظا بشيء من لمعانه. فتحته وقرأت سورة الفاتحة، وأهديتها لأرواح أحبة غابوا غيبتهم الأبدية. وقبل أن أغلقه تسللت قصاصة من قلبه، وكادت أن تسقط أرضا. سرت رعشة في جسدي، ومر أمامي مشهد أبي وهو يتصفح ذات المصحف، ويقبض على قصاصة تسللت من قلبه. وفكرت؛ التاريخ لا يعيد نفسه، لأنه جماد بحت، نحن الذين نعيد أنفسنا، لنستدرك ما فاتنا منه، وها أنا ذا أعيد نفسي لأقرأ القصاصة الأخيرة لعيسى دراج:
"ابنتي الحبيبة لبنى.. هذه المرة الأخيرة التي أكتب لك فيها، وأعرف أنك حكيمة بما يكفي لتقرأي كلماتي، وتلبي ما أطلبه منك ولو بعد حين. أوصي بمكتبتي كلها لصديقي الدكتور كامل، فتكون تحت تصرفه، وعنايته. هذه هي أمنيتي، أعرف أنها أمنية صعبة، فمخبرو الأمن يراقبون الداخل إلى بيتنا والخارج منه، لكنني يا حبيبتي مؤمن أن لا شيء مستحيل، وأن الأمنيات مؤجلة حتى تكتمل طاقة إيماننا بها فتصبح واقعا نعيشه.
هل تتذكرين الشاب المسجون الذي كان معي في نفس الزنزانة؟ كم كان كريما وطيبا في تعامله؟ تخيلي أنه كان يهبني غطاء منامه حين يشتد البرد ليلا، وينام هو بلا غطاء. بالأمس نفذوا فيه حكم الإعدام. حزنت عليه حتى كدت أن أموت حزنا. وفرحت به حتى كدت أن أموت فرحا وهو يطلب مني العفو والسماح قبل أن يغادر الزنزانة التي جمعتنا معا ذاهبا إلى غرفة الإعدام... ولكن أسامحه عن ماذا؟ عن كرمه العظيم وخدمته لي طوال الشهور الماضية؟ بلى يا حبيبتي هو يطلب السماح عن حادث قديم جدا... هل تتذكرين يوم ذهبنا في رحلة ترفيهية خارج بغداد؟ حين عدنا يومها وجدنا القفل الحديدي لباب البيت محطما، وذهب أمك مسروق بأكمله. كان اللص هو الشاب السجين نفسه، السجين الذي خدمني وكأني أبوه أو قريب عزيز عنده. جمعتنا الأقدار في نفس الزنزانة، محكومان بالإعدام، أنا لطول لساني وهو لطول يده. أليست هذه أمنيات مستحيلة صارت واقعا يا ابنتي؟
حبيبتي لبنى.. سأضع قصاصتي هذه تحت غلاف مصحفي، فهم لا يفتشون المصاحف. خذي المصحف وسلميه يدا بيد لصديقي العزيز الدكتور كامل، وقولي له أن عيسى دراج يتمنى أن تجد وسيلة تنشر بها قصاصاته، ففيها خلاصة تجاربه ومعاركه في الحياة. حياة كان يتمنى أن تطول ليتشارك فيها معكم بكلمات لن يسمعها منه أحد."
مات أبي في غربته، مات وفي قلبه أمنية لم يستطع تحقيقها، لكن الأمنيات، وكما وصفها صديقه في رسالته الأخيرة لابنته لا تموت، وإنما مؤجلة حتى تكتمل طاقة إيماننا بها... واليوم قد اكتملت طاقة إيماني بجمع قصاصات عيسى دراج، ونشرها على ملأ الناس!
زيد الحمداني كاتب وباحث من العراق، يكتب القصة القصيرة والمقالة، ومهتم بالنقد الأدبي، يحمل شهادة الدكتوراة في الهندسة، ويعمل أستاذا جامعيا، نشر كتابين أدبيين، الأول مجموعة قصصية بعنوان: "بابا حمورابي" والثاني خواطر شخصية بعنوان: "كمثل حبة خردل".