حارس الفراشات
طه سويدي
الفصل الأول
اتشحت سماء القاهرة – على غير عادتها في نهارات أغسطس - بغيوم قاتمة، دفعت علي إلى الظن بأن القاهرة ستذرف بضع دمعات على رحيله الوشيك، ولكن السماء اكتفت بغيوم الحداد أو ربما الإمتعاض كما مال ظنه.
ترجل علي من سيارة الأجرة بصحبة أمه وأخته هدى أمام باب إحدى صالات المغادرة بمطار القاهرة، وقف مطأطأً يستمع إلى كلمات وداع ثقيلة ورقيقة تتلوها شقيقته الوحيدة، بينما غرقت أمه في صمتها المعتاد، لا تقطعه سوى بإيماءة عابسة أو زفرة معبأة بخيبة الأمل إذا ناكفتها هدى وسط أمنياتها ودعائها له وقالت لها: « مش كدا يا ماما؟» لم يتضايق علي من عبوس أمه وصلابة قلبها حتى وهو على وشك الرحيل. كان قانعًا بأن حجم المكسور فاق الجبر أو التغافل، فلم يعد يبالي؛ يغضب من يغضب ويعبس من يعبس. لعل رحيله يساعد أمه أن تتذكر ولو مرة أن لها حياة أصرت ألا تعيشها.
شيء واحد فقط كان قادرًا على ملامسة قلبه المتحجر... هدى وابنها الصغير. كان يشعر بحزن ممزوج بالرضى والتمني أنه سيترك أخته الوحيدة وملاكه الحارس، من وقفت بجانبه في كل مصائبه وما أكثرها. سيرحل ويتركها وحدها في مواجهة لسان أمها والناس. يعلم أنها قوية، ولكنه يشعر بالذنب أنه سيغيب عن حمايتها. ثم تذكر أنه أقنع نفسه بأن في رحيله فائدة كبيرة لها، فلعلها تتحرر منه وتتفرغ لصغيرها الوحيد وتحتفظ به بعد أن كادت تفقده بسبب شقيقها الوحيد... الأحمق.
وعلى مسافة قريبة كان فارس يتكئ على إحدى السيارات، ينظر إليه شذرًا ، بينما يحاول علي تحاشي النظر إليه، ربما فارس غاضب منه لهروبه، أو ربما يريد تصفية حسابهما قبل السفر، ولكن علي لم يبال، فقد حدث ما حدث.
اقترب موعد الطائرة، فصار علي يرى ويسمع هدى من خلال شلال أخفى ملامحها وطمس صوتها، قبل أن يغرقه هو في سيل هواجسه؛ هل حقًا سيهرب بتلك السهولة بعد كل ما فعل؟ قلبه المتخثر يخبره بأن شيئًا ما سيقع، ولكنه توقف عن تصديق قلبه منذ زمن. بصق على هواجسه والتفت لأمه حتى يؤدي مشهد الوداع الختامي. خرج صوتها متهدجًا وقالت: «متطولش علينا... ربنا معاك.» وتعانقا بتوجس. أما هدى فقد اختبأت من حزنها بأن دفنت جسدها الضئيل بين ذراعيه وصدره الهزيل، فشعر بقلبها يرتج في صدره وأدرك ما يدور قبل أن ترفع هي رأسها وتهمس في أذنه:
«عشان خاطري... انسى وعيش يا علي... وامشي على مهلك.»
شدد ذراعيه حولها، وربت على رأسها وظهرها وهو يستنشق رأسها لعل أنفه يحتفظ برائحة آخر ما تبقى منه. ثم ألقى نظرة أخيرة على فارس الواقف بعيدًا فوجده قد اختفى عن الأنظار.
دلف إلى المطار يكاد يتعثر بحقيبته الثقيلة. تفاجأ قليلًا أن أحدًا من عمال المطار لم يعرض عليه دحرجة حقيبته أو أي مساعدة طمعًا في بعض النقود، الكل يتحاشاه وكأنه كلب أجرب. أصابه حزن مبدئي ما لبث أن اختفى وحل محله تسليم بأنه استحق هذه المعاملة حتى ممن يجهلونه. وذكّر نفسه أن هالة الإجلال انطفأت منذ زمن، وحل محلها وصمة إزدراء على جبينه يراها الكل، ومضى ثقيلًا حتى وصل إلى ختم الجوازات.
رمقه ضابط الجوازات بنظرة مرتابة، ثم تابعت عينا علي يدي الضابط وهو يستخرج بياناته على الشاشة. توقف قلبه عندما رأى اسمه يملأ شاشة الحاسوب تعلوه عبارة مكتوبة باللون الأحمر وتقول «مطلوب فوري». التفت عليه الضابط وقد ازدادت نظراته اشتعالًا وأمره بأن يقف على جنب، فأطاعه، وسمع الضابط يتلو اسمه بعصبية عبر الهاتف، ثم نادى على أحد الأمناء وأمره أن يصطحب علي.
افترس القلق بدنه، تقلصت أحشاؤه، وضاق نفسه. ثم أحس براحة وليدة ترطب حلقه. ما الذي سيحدث؟ لو انكشف سره سيرتاح من حمله، وينال ما يستحق، تمتم بجملة «أيوة، هعترف»، ثم أفاق على صوت الأمين يزجره:
«انجز يا سيدي ورانا مصالح، انجز خلي يومك يعدي».
سقط بهم المصعد إلى طابق تحت الأرض. مشيا في طريق مهجورة لا يقطع صمتها سوى وقع أقدامهما، ثم استوقفه الأمين بإيماءة آمرة ودخل إلى المكتب الأخير. وبعد هنيهة سمع علي اسمه الثلاثي يقرأ بضع مرات، ثم ران صمت ثقيل دام لدهر كامل قبل أن ينادي الأمين عليه ويأمره بالدخول ثم يؤدي التحية ويغادر.
وقف علي أمام رجل حسن الملامح، ربما يكبره ببضع سنوات. نظر إليه بابتسامة تلمع كحد السكين، ثم أشار له وقال:
«اتفضل اقعد يا دكتور، وطلع تليفونك لو سمحت.»
أطاعه علي وهو ينتظر سؤالاً محددًا، ولكن الضابط لم يسأله، بل عبث في هاتفه لدقائق طويلة ثم نظر إليه وازدادت سكينه لمعانًا وقال:
«بتتعاطى بقالك كتير.»
اختلج قلب علي ولكنه استجمع نفسه وقال
«لا.»
ضيق الضابط عينيه ثم سأله:
«أمال لون وشك باهت ولا كأنك ميت ليه؟ أنت مريض؟!»
فأجابه علي بأنه فقد بعض الوزن مؤخرًا، فضحك الضابط وهو يتفحص هاتف علي مرة أخرى وقال: «ويا ترى صوتك ده سببه فقدان الوزن برضو ولا أنت خايف يا دكتور؟!»
«الاتنين حضرتك.»
«مسافر ليه ولمين؟»
«شغل... مشافر أشتغل... لوحدي. »
«كنت مربي دقنك ليه؟ سنة؟!»
«لا... زهق!»
«شكلك كنت مشاكس يا علي...ندوات، ونقابة... الله، وانتخبت الإخوان كمان «هاها...ليه بقى إن شاء الله؟»
«مقلب من ضمن المقالب.»
«مقلب! ويا ترى بقى مبسوط إنك مسافر؟ »
«يعني... »
«وطيب وايه علاقتك ب…»
قاطع الضابط رنين هاتفه، استغرق في مكالمته ضاحكًا، فتمكن الهلع أخيرًا من علي. ارتعب من هاجس الاعتقال أو التحقيق الطويل. قال لنفسه أن الضابط وجد على هاتفه بلا شك أشياء تدينه، وسيسأله بعد المكالمة عن جريمته المخفية. ثم انتبه إلى نزيف وقته، وأن الطائرة سوف تفوته إن لم يطلق الضابط سراحه، وستخسر هدى قيمة التذكرة التي دفعتها... بكّت نفسه، فكر أنه كان عليه الامتناع عن السفر، هل كان يتخيل أنه سيفلت حقًا بما فعل؟ مجددًا الكل يخسر... الكل يتألم... بسببه.
انتهى الضابط من مكالمته، ثم طالع علي بابتسامة ظافرة وقال: «توصل بالسلامة يا دكتور، أتمنى تركز في مستقبلك وبس.»
«مستقبل! وماله مش عيب» قالها علي في نفسه، بينما منح الضابط ابتسامة شكر كاذب وخرج من الحجرة فوجد الأمين ينتظره بابتسامة لزجة ملوحًا بجواز سفره: «الوالدة دعت لك يا دكترة.» اقترب منه علي وقال: «ناولني الباسبور بالزوق.»
«نعم يا حضرة!»
«زي ما سمعت... ولا تحب ننادي الضابط؟»
صاح الضابط من خلفهما: «أديله الجواز وهات اللي بعده.» فتبادل علي والأمين الشذر قبل أن ينتزع علي جواز سفره عنوة ويهرول لا لشيء إلا لإنقاذ ثمن التذكرة. وعندما وصل بوابة المغادرة وجد إعلانًا في انتظاره بأن طائرته ستتأخر في الإقلاع لبضع ساعات وعليه الانتظار، فتهاوى على أقرب مقعد. لم تمض دقيقة حتى رأى فارس جالسًا في المقعد المقابل، يعض على شفتيه في قهر بينما عيناه تلمع بدموع حبيسة. غض علي بصره عنه ثم دفن رأسه بين راحتيه، واستسلم لطوفان الهواجس.
كذب على الضابط وكذب على هدى، هل يسافر فعلا بحثًا عن شغل وحياة جديدة؟ لا يظن ذلك. هو يعلم أن مصيره التيه بعد كل ما حدث. يرفع رأسه وينظر إلى فارس فيراه على هيئته نفسها لا يحرك ساكنًا، يتأمله ويتعجب من حسن هندامه وتورد وجهه المزدان بلحيته المشذبة أسفل نظارته الكبيرة والتي يظللها شعره الكثيف. يسأل علي نفسه إن كان الموت قد أعاد فارس إلى حيويته وعنفوانه؟! يحدق في فارس فيتشقق قلبه بقسوة افتقاده لصديقه الوحيد، ويستسلم لتيار الذكريات. عرف فارس منذ أن عرف الحياة؛ ولدا معًا في نفس اليوم، وتربيا في نفس البيت، طبعتهم الحياة بطباع مشتركة. كان لهما نفس الطول وهيئة الجسد، قبل أن يضرب الهزال علي. تشاركا المدرسة والجامعة والصحبة. كانا يكملان بعضهما؛ فعلي كان جريئًا ولم يحظ بشعبية فيمن حوله، وفارس كان صاحب حضور خفيف، ظنه البعض عبيطًا أو مغرورًا. وحده علي كان يعرف أن فارسًا يداري تردده وخجله بصَدَفة الجدية وبعض التعالي... فارس كان من يومه ابن فضول وعناد وربما ابن موت كذلك كما أدرك علي في الأيام الأخيرة، أما علي فكان ابن التقلب والتناسي. وبينما يحدق في فارس الجالس أمامه، يدرك مجددًا أن فارس كان مصابًا بالفرط، ليس في الحركة، ولا الأكل، وإنما فرط فضول وتعاطف وأنانية وغضب، خلطة قاتلة جعلته يأكل نفسه في النهاية.
ينظر علي في ساعته، يزحف الإنتظار كسلحفاة ميتة. يتأمل عقارب الساعة وينظر إلى وجه فارس، ثم يسأل نفسه إن كان بوسعه عكس دوران عقارب الساعة من أين يبدأ ليغير المآل؟ هل يعود لسنين الجامعة حيث كان فارس محاطًا بآمال عريضة عقدها كثيرون عليه فجعلته جائعًا لتفوق دراسي لم ينله، فيحدثه للمرة المليون ألا يحزن أو يغضب، وأن يعيش لنفسه وبهدوء؟ أم يعود لأيام أسئلة فارس عن معنى حياته وبحثه عن هدف يعيش لأجله فينصحه للمرة الألف أن أسئلة الحياة اختيارية وليست إجبارية كورقة امتحان البكالوريوس؟ سيسخر منه فارس ويصم أذنيه عن كلامه كما اعتاد أن يذكره موبخًا بأنه لا يفكر سوى في بطنه وما تحتها فقط…
«لا.» تمتم علي ثم قال لنفسه أن عليه العودة إلى أيام الثورة الأولى، فيقيد حركة فارس ويمنعه من نزول الميدان، ويمنع نظاراته أن تتصدى لخرطوشة كادت أن تفتك بعينه، التي جعلته يصدق أنه نجا بمعجزة. لولا هذه الصدفة لما تضخمت ذاته بوهم المهمة والرسالة، ولما استولت عليه ضلالات القوة والقدرة حتى صار كالمجذوب يركض خلف هلاكه ولا يعلم. لا... بل كان عليه أن يكسر قدم صديقه قبل أن يذهب إلى بروميثيوس.
أشعلت الذكرى الأخيرة دمه، فصر على أسنانه وتعالت أنفاسه. مازال يذكر اليوم الذي قرأ فيه فارس إعلان منتدى «كبد بروميثيوس» أعجب فارس الاسم في لذة وهو يردد شعار المنتدى «كيف تولد من جديد؟» ابتهج فارس كثيرًا بالفكرة ومحتواها، خصوصًا أن المحاضر هو أحد أعلام الكتابة والفكر الصاعدين وقتها. استمع إليه فارس بضع مرات في الندوات التي كان يذهب إليها أثناء بحثه عن إجابات لأسئلته الإجبارية التي أرهقته وأرهقت علي:
«هيعلمنا نفكر ونشك في كل حاجة يا علي... هنفهم كل حاجة صح أخيرًا... صدقني الراجل ده أسطورة.»
آمن فارس ببروميثوس، ربما أكثر مما ينبغي، وأقنع علي بالذهاب معه. لم يكن علي ليفارق فارسًا مهما حدث، ولم يكن أيضًا بقادر على إثنائه عن أي عزم. فارس كان دائمًا المنتصر في أي جدال، ولكن حدس علي نادرًا ما أخفق.
«بروميثيوس... بروميثيوس...بروميثيوس.» تمتم علي بالاسم أكثر من مرة. لم ينس أبدًا توجسه منذ جلسات بروميثيوس الأولى، ولكن توجسه انسحق تحت وطأة انبهار فارس ورعونته، حتى أفاق على صفعة ساحقة لإدراك متأخر، بأن بروميثيوس المصري لم يرد أن يقدم للبشرية كبده كما فعل مثيله الإغريقي. وإنما كان غرضه السامي هو تقديم عضوًا أخرًا لفتيات محاضراته. أدرك فارس المصيبة متأخرًا جدًا فاحترق بنارها... واجه بروميثيوس، حاول إصلاح ما تحطم، ولكن بروميثيوس ومريديه كانوا أسرع وحولوه إلى عار يمشي على قدمين فيبصق في وجه الكل وأولهم هو نفسه.
نال فارس ما رآه وقتها علي ومازال يراه جزاءً مستحقًا، ربما كان عادلاً أو ظالمًا بعض الشيء. ولكن علي وفارس لم يتفقا أبدا على معنى محددٍ للعدل. ويظن علي أن البحث عن معنى العدل تحديدًا هو ما صنع مصير صاحبه. فشل فارس في المواجهة وأدرك أن الحياة توقفت، أو ربما استحالت... وشاركه علي إدراكه حتى النهاية.
حان موعد إقلاع طائرة علي. نظر صوب فارس فلم يجده، تلفت حوله فلم يعثر له على أثر. قام متثاقلًا، اجتاز بوابة الدخول بسهولة، ثم توقف بعد بضع خطوات ونظر خلفه مليًا. فشل في استيعاب أنه على وشك الهروب ولم يكتشف أحد بعد أنه قتل فارس صديق عمره.
طه سويدي هو طبيب مصري يقيم في المملكة المتحدة يكتب القصة والمقالة والرواية. صدرت له عن دار المصري للنشر والتوزيع رواية "العزومة"، وأصدر مجموعة قصصية بعنوان "اختيارات". أتم بعض الدورات والورش في الكتابة السردية داخل مصر وخارجها. حاز على جائزة مسابقة قصص على الهواء المنظمة بشراكة مجلة العربي الكويتية وإذاعة مونت كارلو عن قصة "منديل"