الحدث المحوري
محمد الأحمدي
فتاتان مقيدتان في مستودع مظلم رطب. خلفهما قلمٌ أبيض يومض بكسل. إحداهما تبكي وتتضرع والأخرى تشتم وتتعرق، بينما ينزل صاحب البيت من سلالم سوداء معدنية. صاحب البيت رجلٌ عملاقٌ غامض يحمل بين يديه رضيع مطمئن نائم. خارج المستودع، يدخل نمس بذيلٍ أبيض إلى بيت الرجل من خلال فتحةٍ صغيرةٍ في الجدار المهترئ. يعض النمس يد إحدى الضحيتين أولًا، ثم يساعدها بقرض الحبل البني الخشن المقيّد لها بأسنانه الصغيرة الحادة.
هذا المشهد هو ما كنت أراه حينما بدأت كتابة روايتي في ديسمبر الماضي، واليوم بعد اكتمال رواية «رؤى»، لا وجود للمستودع ولا النمس ولا الرضيع بل وحذفت المشهد المشابه لجو روايات ستيفن كينج، رغم أن الرواية كلها، بطريقةٍ أو بأخرى، وُلِدت من رحم هذا المشهد.
لكن أين ذهب، وكيف بقي تأثيره على أحداث القصة رغم حذفه؟
قتلت الفكرة لأن خطف امرأتين وتقييدهما في مستودع تحت أرض فيلا سكنية وإنقاذهما من قبل حيوانٍ نادر من رتبة القوارض مشهدٌ معقّد يحتاج إلى الكثير من الإقناع، خصوصًا في سياقنا السعودي أو حتى العربي، إقناعٌ كان سيسرق الاهتمام من بقية مشاهد الرواية ويضرب مصداقيتها. لهذا كانت فائدة حذفه أكبر من بقائه.
وقتل أحبابي فعلٌ اعتدته وقت العمل على «رؤى»، فخلال السنة التي كتبت فيها الرواية، المتجاوزة 30 ألف كلمة بقليل، فقدت أكثر من 40 ألف كلمة بين حذفٍ وتعديل. تعددت الضحايا بين مشاهد، وشخصيات، وحوارات، وجمل، وحتى كلمات.
وأما فصل الختام فيما يخص مشهد المستودع فهو لم ينجُ في آخر المطاف (أو أولّه) لأن في موته كانت حياة الرواية.
«رأيت وردةً بيضاء، عليها لطخٌ من الدماء، وخلفها سياجٌ أبيض يحد حديقةً خضراء.» هذا كان جواب المخرج الأمريكي ديفيد لينش عن فيلمه أزرق مخملي (Blue Velvet)، عندما سأله أحد الصحفيين عما ألهمه لصناعة الفيلم. المشهد البديع والغريب الذي رسمه في مخيلتنا لم يكن اللقطة الافتتاحية للفيلم فقط، ولكن بالنسبة للمخرج انبثق الفيلم كاملًا منه. فأهمية المشاهد المحورية لا تكمن في مكانها أو مدتها، بل في أنها روح القصة. وهذا ما حصل معي، فمشهد المستودع يحمل روح الرواية بطريقةٍ أعجز عن شرحها بالكلمات ولكن لا شك عندي بأن قارئ الرواية الذكي سيرى الترابط واضحًا.
كل ما أستطيع قوله هو أن جانب التشويق والإثارة والتناقض والازدواجية، كل هذه الجوانب الموجودة على امتداد الرواية موجودةٌ في المشهد. وحتى البطل الغائب حضر بتمثله في حيوان النمس الذي يشابه تفاصيل شخصيته.
يرى بعض الكتّاب قصصهم من زاوية اللغة، وآخرون تبدأ قصصهم بسؤالٍ فلسفي، و"ثالثون" تشكّل لهم المفارقة عدسةً يرون من خلالها الأحداث، فزوايا القصص تختلف باختلاف الكتّاب.
بالنسبة لي، تبدأ الرواية بالمشهد. إن لم أرَ ما أريد كتابته واضحًا خلف أجفاني لن أستطيع تشييده في مخيلة القارئ. تبدأ عملية التشييد كاملةً مع مشاهد مثل «مشهد المستودع» وهذا ينطبق على معظم الكتّاب باختلاف طرق كتابتهم، فإن كانت القصة تبدأ عندهم من سؤالٍ فلسفي مثلًا ستجد السؤال مختبئًا في أركان القصة وبين أسطرها يطعّم كل مشاهد القصة.
أسمّي هذا المشهد «الحدث المحوري»
قبل عدة أسابيع حضرت مسرحية شبح الأوبرا (The Phantom Of The Opera) في الرياض. وهي قصة موسيقار عبقري بوجهٍ مشوّه يقع في حب إحدى مغنيات دار الأوبرا فيعذّب أصحاب الدار حتى يفوز بقلب الفتاة. في إحدى المشاهد كان «الشبح» صاحب الوجه المشوه على وشك احتضان كريستين، الفتاة التي عذّبت قلبه وأسَرَته، إلا أنه في آخر لحظة أشاح عنها رغم تسليمها نفسها له راضيةً. وعندها، أعطى الحضور الجانب المشوه من وجهه. الجانب الذي يغطيه قناعه الأبيض الشهير، وكأنه يخبرنا بهذه اللمحة البسيطة أن العلّة كلها في هذا الوجه، ولا يهم تقبل الناس له، فهو لا يتقبل نفسه. هذا المشهد كان الحدث المحوري في المسرحية فهو ينقل لنا فكرتها على أكمل وجه، ولو لم تشاهد من المسرحية غيره ستصلك الفكرة.
باختلاف الكمية والكيفية، يتسرب الحدث المحوري إلى القصة ككل، وتجد روحه مختبئة داخل كل صفحة، في الحوارات وفي الوصف وفي السرد. مثل مشهد صراع الشيخ مع القروش ليحافظ على صيده الثمين في «الشيخ والبحر». المشهد الذي ينقل عزم الشيخ وعجزه المنعكسان في كل صفحة داخل الرواية من إصراره على الصيد وحتى نقاشاته مع الصبي وعودته راضيًا رغم ضياع صيده في نهاية المطاف. أو مشهد فضح هروب أوفيليا بطلة رواية/فيلم «متاهة بان» بسبب هجوم المتمردين على ثكنة زوج والدتها قبل هربها برفقة أخيها إلى المتاهة السحرية. المشهد المبلور لفكرة القصة تدور حول طفلة تبحث عن سحر الطفولة في زمن الحرب الأهلية الإسبانية.
هذه الأحداث المحورية تكثّف مغزى القصة ثم تقدمه لنا واضحًا.
رغم أن المستودع لم يعد مكانًا في الرواية، وذلك الجزء حذف تمامًا بدل تعديله، إلا أن الغموض والتشويق الموجودان في افتتاحية الرواية عاشا لبقيتها. فعندما أفكر برواية «رؤى»، سواءً بقي الجزء أو حُذف، أرى هذا المشهد الذي قتله الكاتب وقت التحرير بيديه، أو بزر الـ (Delete)، ولم يستطع تجاوز اختبار المسودة الأولى.
ليست رؤى روايةً بلا محور، ولكن علّها رواية بمحاور مصغرةٍ عديدة، لأن محورها الأصلي تحول إلى شبح يطاردها في كل زاوية من زوايا صفحاتها.
محمد الأحمدي راوي قصص وصانع محتوى أدبي في مواقع التواصل الاجتماعي باسم: محمد يكتب. روائي وكاتب قصة قصيرة ومقالات وغيرها. شارك بالكتابة والتحرير في المجموعة القصصية "الساردون الجدد". ينشر القصص والتدوينات في موقعه الإلكتروني: محمد يكتب.