top of page

الاسترجاع واستحضار الذاكرة:
أدب السجون العربي أنموذجًا

زبيدة فيصل


"لماذا يا شبيهي وآخري تريد أن توقظني من حكايتي التي تركتني لنسيانها؟ وتحاول أن أوقظ لك من تحت رمادها جمر تلك السنوات الطويلة، التي كنت أحترق بها، عندما كانت طاحونة الزمن الثقيل تلوك أعمارنا الطاعنة في قهرها وأوجاعها وغياباته!"
الكاتب والناقد السوري مفيد نجم، مخاطبًا قرينه في مذكراته "أجنحة في زنزانة"

البعض أسماه بـ "الأدب الجريح"، وهو الأدب الذي يحكي تجربة معتقل في السجن عانى ضيقًا في المكان وفائضًا في الزمان. ضمرت فيه حواسه واختبر مشاعر الموت البطيء، فكتب بعد رجوعه إلى الحياة من جديد تجربة نضالية وإنسانية مضنية؛ يُفرغ بها أوجاع ذاكرته المتعبة. ولأن لا جديد يبدعه غير اجترار الماضي أمام ناظره كي يُنشئ حياة تؤنسه.
"أدب السجون" شغل حيزا مهما في ساحة الأدب وحظي باهتمام القرّاء، وغاياته كثيرة؛ من بينها أن يصل صوت السجين إلى العالم وإعلان أهلية الوجود والجدارة للحياة. وهو أيضا بمثابة نافذة يتسلل منها الضوء إلى عتمة زنزانة سجين آخر ".. ومهما ضاقت الدنيا ومهما صغرت، فإن فيها شقاً ينفذ منه النور ويحمل الهواء". –عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط.
لطالما كان "أدب السجون" ملازمًا للقمع الذي رافق الطبيعة البشرية، فهو قديم قدم تجربة الإنسان المريرة مع الظلم والقهر. ويؤكد ذلك حضوره في آداب مختلف الأمم والشعوب، وفي الثقافة العربية تحديدًا. فإن أدب السجون أو أدب الحبوس كما كانت تسميه العرب في القدم، اقتصر معظمه في السابق على الشعر، ومن أشهر من كتب فيه أبو فراس الحمداني، ثم امتد في العصر الحديث إلى أجناس أخرى كالرواية والمذكرات. وازدهر تحديدًا في فترة السيتينيات والسبعينيات في العراق وسوريا ومصر والمغرب، لما شهدته هذه الدول من ثورات وانقلابات وتحولات سياسية كبيرة، فجاءت الكتابة عن السجن نوعا من الانتقام الرمزي للسجانين والمعذِبين. كان من بينها رواية "شرق المتوسط" للأديب والناقد السعودي عبد الرحمن منيف، كتبها في العام 1972م. تطرق فيها بكل جرأة لحال المعارضة السياسية في بلدان الشرق الأوسط دون تحديد أسماء أو ذكر لمدن، وذلك من خلال سيرة مصغرة لمعارض سياسي مثقف. ذكر منيف في المقدمة بأن هذه الرواية "توحي ولا تحكي، تشير ولا تتكلم .. وأن ما قيل في هذه الرواية غير كاف، لأن واقع الحال أدهى وأمرّ مما كُتب". ومن السير الروائية العربية في أدب السجون والتي لا يسع لقارئها الفكاك من قبضة مؤلفه وهو يستدرجه إلى مَواطن أوجاعه الوجدانية والجسدية؛ رواية "القوقعة: يوميات متلصص" للكاتب السوري مصطفى خليفة، الذي سرد ما ذاقه من صنوف التعذيب في سجون بلده التي أمضى فيها 13 عامًا بعد عودته من فرنسا، حيث كان يدرس الإخراج السينمائي؛ فدوّن -متعمدا- في ذاكرته كل أشكال المآسي البشعة التي عاشها، ثم صاغها ببراعة وشفافية عالية وبأسلوب أدبي مؤثر على شكل يوميات سجين. قال: "هذه اليوميات كتبت معظمها في السجن الصحراوي، وكلمة (كتبت) في الجملة السابقة ليست دقيقة. ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.. عندما قررت كتابة هذه اليوميات كنت قد استطعت بالتدريب تحويل الذهن إلى شريط تسجيل، سجلت عليه كل ما رأيت، وبعض ما سمعت. والآن أفرغ "بعض" ما احتواه هذا الشريط". ومثل مصطفى خليفة وثّق أيضا المغربي أحمد المرزوقي في كتابه "تزممارت: الزنزانة رقم 10" معاناة 18 عاما من السجن، إثر تورطه بالمشاركة فيما سمي لاحقًا بـ "محاولة انقلاب الصخيرات". كتب عن وضعه في قبر مظلم، ومنحه فتات الطعام والماء الملوث دون أن يرى أو يكلم أحدا، فظهر عمله الثقيل بمثابة سجل توثيقي صادم لما يجري في سجون العالم العربي.
وكما جرأ المساجين من الرجال في العالم العربي على تصوير معظم مناحي الحياة خلف القضبان، وأصناف البطش والآلام التي عاشوها، كذلك استطاعت المرأة العربية أن تترك بصمتها في "أدب السجون"، وأن تنقل للعالم تجربة المرأة العربية في السجن. فكتبت الروائية المصرية نوال السعداوي -وهي في الأصل طبيبة وعرف عنها دفاعها الكبير عن حقوق المرأة- عن تجربتها الشخصية في السجن لبضعة أشهر عام 1981 ابتداءاً من لحظة دخولها وحتى الإفراج عنها، في كتاب عنونته "مذكراتي في سجن النساء"، فوصفت الحشرات التي أحاطت بها وهي في السجن وملمسها على الجسد. وعن تجربة الكتابة على ورق التواليت عن اللون الرمادي المحيط بها وكيف عودت نفسها على طول الانتظار: "لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات. لكنه قد يموت من الانتظار." ولم تكتف السعداوي بتسليط الضوء على تجربتها كسجينة سياسية، بل وأيضًا سردت قصص بعض السجينات من غير السياسيات.
في هذا النوع من الكتابة، أدب السجون، يحكي الكاتب عن نضال إنسان لم يُرهب، لم يتراجع، قرر ألا يضمحل. رغم كل التمزق الذي عاشه استطاع أن يملك الخيار لاتخاذ موقف ذي طبيعة بطولية، بأن يحافظ على بقايا حريته الروحية واستقلال عقله حتى في أحلك الظروف وأصعبها، مفصحًا عن بعض حكاياته مع السجان -فالكتابة عن هذه الذكرى لها عواقبها- وأيضا كي يعثر على معنى معاناته الرهيبة التي لم تفارقه حتى بعد خروجه من السجن؛ فهي تضطجع معه في الفراش وتسير الى جانبه في الطرقات.
الكتابة عن هذه التجربة تبدو مختلفة عن غيرها من الكتابات، فهي تجربة تعاش كونها تمس كيان المعني كله؛ جسده ووعيه ومشاعره، ويصعب نقلها بالتعبير عنها. ومع عظم حجم الخسارة التي يعيشها الكاتب السجين حتى بعد خروجه من المعتقل، فإنه يرى في الكتابة رفعًا للغبن الذي طاله، ووسيلة نحو إعادة تأسيس لذاته، ولدوره في تجربة دُفع إليها قسرًا أو تغريرًا. وكل ذلك يتطلب من الكاتب أن يغوص داخل ذاكرته ليكتب عن أحداث من عمق الواقع الذي عاشه؛ ويستأصل من روحه بالكتابة ركامًا من الآلام والمحن التي مرت به. يكتبها للكشف عن المستور قبل أن تتقلص الذاكرة، وتنطمس الذكريات. قبل أن تدخل التجربة ضمن دائرة الغياب، أو حتى قبل مجيء الموت الذي لا يمكن إصلاحه، كما قيل في رواية دون كيخوته للأسباني ثيربانتس سابيدرا "يمكن إصلاح كل ما في الحياة باستثناء الموت".
ومن الصعب الزعم أن معظم مؤلفي نصوص أدب السجون كانوا يستحضرون عند كتابتهم لها وعيًا فنيًا مسبقًا لمواصفات السيرة الذاتية وغيرها من الأجناس المجاورة. أو أنهم يكترثون من الوجهة النقدية والجمالية بأن تصنف شهاداتهم ومذكراتهم وسرودهم ضمن أدب السجون. فالقصد من الكتابة والبوح لديهم تتجاوز فكرة تصنيف العمل الأدبي وجنسه (شعر، رواية، سيرة...) إلى ممارسة قول الحقيقة باسم مبدأي الحق والواجب، وهو ما يستلزم من الكاتب فضيلتي الشجاعة والصراحة.
كتابات السجون تؤكد لنا أن الأدب بمختلف أجناسه يستطيع أن يطرق كل الأبواب حتى تلك المقفولة؛ لما يحمله هذا الأدب تحديدًا من سمات الفضح والتنديد بمختلف أشكال الممارسات الوحشية التي عادة ما يخضع لها المعتقل لدرجة يفقد معها، بالإضافة لحريته، جميع حقوقه الإنسانية. ففي هذا النوع من الكتابة يسترجع السجين زمنًا لم يكن فيه معنيا بالوقت والضوء وكل عناصر العالم الخارجي، حتى تساوت لديه جميع المتناقضات لطول بقائه في السجن، ومن بينها الحياة والموت، البداية والنهاية، لذا جاءت بعض نصوص أدب السجون مفتوحة النهايات كما فعلها الروائي المصري صنع الله إبراهيم في روايته "شرف" الصادرة في 1997.
يمكن أن نصف هذا النوع من الأدب عمومًا بأنه أدبًا واقعيًا، وإن كان ليس كل الواقع، ولا يسوغ لأحد أن يزعم أنه شاهد كل الوقائع ووقف على كل الأسرار. كما أنه مع استحضار هذه الذكريات الكابوسية قد يضفي عليها الكاتب السجين أو الراوي عن السجين، شيئًا من الإيحاءات الوجدانية أو الإيدولوجية، وليست كما جرت في الواقع. هذا إلى جانب موضوع تسلسل الأحداث والتي ربما تتشابك في ذاكرة الكاتب السجين، فالذاكرة هنا تعمل وفق تقنية اختيار الأحداث الأهم بالنسبة للسارد وليست وفق التسلسل الخطي للزمن.
القارئ لهذا النوع من الأدب لديه هاجس البحث عن حقيقة ما وقع، ويريد أيضا أن يفتش عن ماهية قدرة الإنسان -الذي ابتلي بالقمع- على البقاء إلى أجل غير معروف. يبحث عن نص يطغى فيه شعور الرهبة والترهيب؛ فيقتحم بذلك عتبة الآلام الجسدية التي عاشها الكاتب السجين من خلال الوصف والتصوير والتعبير، وكأن القارئ يقرر أن يحمل عن كاهل الكاتب ثقل آلامه ومعاناته المستمدة من الذاكرة، وأيضًا كي يطلع على ضمير السجان، الذي بدا معطلًا بالكامل بوحشيته وفظاعة ممارساته أمام هشاشة السجين. ومن ثم لاحقا إنكار هذا السجان لكل الوقائع، لنصوص ذاكرة المعتقل، وكأنها أوهام وتخيلات، لا أكثر. "وما هو أفضع من الفظاعة التي مورست، نفي وقوعها."- الطاهر بنجلون، تلك العتمة الباهرة.
وأخيرًا، فإن كل التجارب الإنسانية مهددة بالتلاشي والانفلات من الذاكرة ما لم تتلمس سبيلها نحو ذاكرة الكتابة، إلا أن الكتابة عن تجربة السجن تبقى تجربة فردية فريدة تجعل من "الذاكرة" كائنًا حيًا وفاعلًا، يصنع بها العالم ذاكرته ويبني واقعه في الحاضر والمستقبل، فلا يحصل فيهما تكرار لما مضى، ذلك أنه: "إذا تكاثرت البراهين، تساقطت الأقنعة كأوراق التوت في الخريف، وتنامى الوعي بالخطر، ثم تحفز المواطنون لوقف النزيف" المغربي محمد الرايس، ذهاب وإياب إلى الجحيم.

زبيدة فيصل، كاتبة من دولة قطر، صدر لها كتاب بعنوان"عادة شكلتني، القراءة وأشياء أخرى حولها"، ونص للأطفال بعنوان "الولد الذي يعرف كل شيء!"، تشارك بمقالات أدبية في عدد من المجلات الثقافية ومنصات إلكترونية تُعنى بالأدب والثقافة.

bottom of page