top of page

شامة متعرجة

أسماء عوض


لاحظت تلك النقطة حينما بدأت أذناها في تمييز الكلمات المنطوقة من أفواهِ تكالبت حولها. استغربت هيأتها المستنكرة ولونها الداكن، يخيل إليها بأنها غيمة أجتُرت من قلب إعصار كان قد تشكل فوق إحدى المحيطات الخمس، وتملأ جزيئاتها حبات مطر ثقيلة تُحدث جعجعة مهولة لحظة اصطدامها بالأرض. أرادت أن تبوح بهذا السر لأمها فكل تفاصيل جسدها تعلمه الأم علمًا لا يشوبه نقصان. أوضحت لها الأم بأن فائدة تلك الشامة تتجلى بإمكانية إيجادها لو كُتب لها الضياع لا قدر الله يومًا ما، فمن غيرها سيحمل تلك الشامة المتعرجة.
كرهت لبس القصير خشية ظهور الجُسيم الغريب، والرافض لمغادرة ذاك الجسد الصغير رغم المحاولات المتواترة. فضلت ما طال قماشه لتحت الركبة بقليل. قامت بالقفز مرارًا وتكرارًا رفقة قريباتها في تعبير أوحد عن سعادة تغمرها في تلك اللحظات المقتطعة، متناسيةً حتمية ظهور تلك الشامة المتعرجة. تفاجأت بابنة الخالة تشير لذلك الطفيلي صارخة "لدي مثله." لم تصدق ما سمعته. اختلت بها بغية معرفة تفاصيل أكثر. همست لها ابنة الخالة أن والدتها قد أخبرتها بأن الجدة تحمل ذات الشامة المستنكرة، بل أن حجمها أكبر بكثير مما هي عليه الآن حيث أن تلك الأجساد الصغيرة ستكبر وتتمدد، ليتضاعف معها حجم تلك الشامة. إذًا هي لعنة الجدة، تعاقبهم نظير الوصول المتأخر إلى هذه الحياة. تريد بتلك الوحمة أن تشعرهم بطيفها يدنو منهم، طافيًا على أسطح أجسادهم الضئيلة. صكت وجهها في جزع عند تلقيها ذلك النبأ، سيحكم عليها بالمؤبد رفقة تلك الشامة، بالأحرى لن تكتفي بتلك المساحة المشغولة، والمسكونة بواسطتها الآن، بل ستمضي في توسيع أراضيها للأمكنة المجاورة، "ستصبح مرئية لا محالة."
ظلت ترقب تفسحها. تقيس المسافات من أعلى نقطة لأسفل نقطة، لتفاجئ في كل مرة بازدياد الرقم المدون. ظلت حبيسة الهلع والارتباك، ففي كل مرة تبصر تلك الشامة المتعرجة تنتابها رغبة اقتلاع جذورها الراسخة تحت سطح الجلد. على الرغم من تعالي صدى الصوت الناقم داخلها، بتأنيب لا يهدأ عن قبح تلك الفعلة وحرمة التفكير بها. أطلقت التساؤل تلو التساؤل عن سبب تمركز تلك البغيضة على بدنها، واستمرار ظهورها مثل مرض وراثي جل ما يمكن فعله لمقاومته، هو تعديل كمية الجرعة اليومية لتتواءم مع اضطراد أعراض تلك العاهة المزمنة. باتت مداراة علتها مهنة حياتها الرتيبة.
لعل ما يشغل بالها ويقلق مضجعها هو رأي من يتبصر تلك المشؤومة، فطالما ظلت تلك الشامة مرئية من قِبلها وحدها. لم يخطر في بالها أن تستشعر ردة فعل شاهد آخر تتراءى له تلك الصورة للمرة الأولى.
قامت الأخصائية في عيادة الجلدية بالتوقف عن تمرير جهاز الليزر لإزالة الشعر فور رؤيتها تلك البقعة، لتطرح عليها تساؤلًا ملؤه الرحمة:
- "أمرر الضوء فوقها؟"
- "بالطبع"
تعجبت من قلق الأخصائية، وعن الأمر الذي دفعها للتوقف خشية حدوث أمر جلل. دفعها الفضول للبحث عن طبيعة تلك الشامة وما الأضرار التي يحتمل أن تقدُم منها. انهال عليها سيل من الإجابات لا طاقة لها في التقاط كافة أحرفها، إلا أن أمرًا ظل يتكرر في البروز بين سطر وآخر، أمر لم تتمكن من تجاهله حتى وإن حاولت، "قد تكون إحدى العلامات المبكرة لنشوء مرض عضال." أغلقت الجهاز على عجل. تلك اللعينة لم تكتفي بالظهور رغمًا عن إرادتها، بل تريد أن تتحكم بذلك الجسد منتقية له هوية الأمراض اللازم عليها تلقيها. لم تطمئن لتلك الحقيقة، أعادت عملية البحث بتروي أكثر. تفحصت العبارات رغبة في التقاط أمر يريح تلك الطواحين التي لم تهدأ، والتي أدمنت عملية الدوران داخل رأسها. أطلقت تنهيدة أقمعت من خلالها جميع الأصوات الداخلية بعد ورود عبارة أن "الشامة ذات الحواف الغير منتظمة" لا خوف منها إن قَدِمت منذ اليوم الأول رفقة مُعيلها في هذه الحياة.


بَسَّل وَجْهَه. عقد ما بين حاجبيه في نظرة تشير إما لعَبوس كرِه ما رأى أو متعجبًا من غرابة تلك العلامة الداكنة. اِكفهَرَّت مَلامِحُ وجهِها نظير ردة فعله. تذكرت أن الرجال يصعب التكهن بما يهوون، فما ظنته غريبًا قد يغويه. كان أمر قد جعل أذنيها ووجنتيها تنخرطا في مرحلة التحول ناحية اللون الأحمر القاني، وكأن جمرة ملتهبة تولت مهمة تلك التغيرات. طرح تساؤله سريعًا حتى يخفف من وطأة درجة الاحمرار، "أهذا وشم؟". استغربت استنتاجه، فلا الشكل يوحي بأنه من صنع الإنسان، ولا يعد اقتباسًا لصورة معروفة الهوية. تدارك خطأه الفادح على عجل واصفًا تلك الوحمة إياها بأجمل ما رأت عيناه. عادته الأصيلة في إطلاق مجاملات يعلم يقينًا شوقها للاستماع إليها، بيد إنها لم تبالِ بوضوح تلك الحقائق، فقد أيقنت بعد تلك الحادثة بأنها شامة جميلة لا يمكن العيش من دونها، فكل ما ينطق به يعد جميلًا، وكل ما يمتدحه يصبح جميلًا.

استيقظت ذات يوم صيفي مشمس. لتجد نفسها مقبلة على روتينها المعتاد في مواجهة ذلك القيظ. اتخذت موضعًا أسفل دَشّ الماء البارد وما أن بدأت تلك القطرات في ملامسة جسدها، حتى تنامى لها فراغ غير مألوف. حاولت أن تتأكد مما التقطته عيناها، تظاهرت بأن سائل الاستحمام قد ولج فيهما مشكلًا بذلك ضباب يحد من رؤية الأشياء بوضوح، غير أن هذا الأمر لم يحدث. عادت لتصويب عينها ناحية تلك البقعة فلم تجد شيئًا، حاولت التذكر، ربما أخطأت في جهة الساق، فبدل التمعن في اليسرى عليها التوجه ببصرها إلى المعاكسة، إلا أن أملها قد خاب. اختفى أثر تلك الشامة المتعرجة، دون أن تترك خلفها علامات يمكن أن يُستدل بها في عملية القبض عليها قبل أن تبتعد.
تلاشت من الوجود. أصبحت عدمًا. تنامى لها تهيؤات بأن تلك الشامة المتعرجة لا وجود لها من الأساس. ندمت كثيرًا على عدم توثيق تلك البقعة. حلت عليها اللعنة من دونها، وأصبحت تائهة في بحث دؤوب، علها تجد بديلًا عن تلك الشامة الجميلة.


أسماء عوض، كاتبة مقالات وقصص قصيرة من الرياض.

bottom of page