دبابيس
صباح حمزة فارسي
أمسكتُ الكرة للمرة الأولى، شعرت بكبرها، بثقلها على قبضتي الصغيرة. حاولت التعلم جاهدًا كيف أحتويها في قبضتي، رفعت رأسي باتجاه الهدف، ومن هناك من نهاية المضمار الضيق لوحت بالكرة عاليًا. سطع نورٌ، تهت أثناء الرمي، ازداد النور والبياض لثوانٍ معدودة، تبدل الجو وأصبح حارًا، صارت الشمس تحرق اليافوخ. رأيتني في السابعة حافيًا، أرتدي قميصًا قديمًا أكبر من مقاسي، أسمع صوت أمي:
"عليك أن تبيع الجرائد، تساعد والدك."
يلتهب الأسفلت تحت قدمي الحافيتين. وقفت على أعقاب سجائر تتلهف أن يكملها أحد فصار من نصيبي أن تنطفئ في جلدي. شكوت لوالدي باكيًا، نهرني بقسوة "خليك رجال"، لذلك عندما فار الدم بعدما انغرز مسمار في كعبي لم أخبره، صرت رجلًا في الثامنة من العمر. نظرت لقدمي فوجدتهما على صالة البولينج، حذاء مطاطي، لكنني لا زلت أشعر بالاحتراق والنزيف من الداخل.
- "هييييه، ارمِ الكرة... يا مبتدئ."
رميت الكرة، دارت حول المسار بعناد، تدحرجت خارج مساري. رمى كثيرون غيري الكرة وسددوا، بعضهم تجاوز منطقة الخطأ دون حرج، وبعضهم كرر رميات مرتدة، أصابوا القوارير وأسقطت، أما كرتي فصارت تدور وتدور ثم تخرج عن المسار، تسير كعرجاء للهزيمة. ضحكوا حين هزمت، صمتُ وصمت.
- "هييييه ارمِ الكرة، الوقت محسوب."
صار دوري، حاذرت ألا يتسخ قميصي الأبيض، أو يتمزق بنطلوني الجينز. اخترت الكرة بعناية، أمسكت بها بعزم، ذراعي أصبحت أقوى. أدخلت أصبعي في ثقوب الكرة كما تدربت، شددت ساقي اليسرى، ثنيت اليمنى، وقفت بزاوية معينة. حان وقت رمي الكرة، الساعة تدق، والدقائق تركض بينما أحدق في المسار. صارت الرؤية غائمة، رفقاء تتغير وجوههم عند رمي الكرة، عند كل فشل لي، بعدم سقوط الدبابيس. ورفقاء آخرون يضمرون فرحًا ما، خيبة ما، والبعض لم تتغير وجوههم قط. ومسارات متزاحمة، في كل مسار وشاية مغرضة؛ نفاق أقارب، كلاب مستعرة ومسعورة، بشر دون وجوه، وبشر بأقنعة، ولهاث لا ينقطع. تراجعت للخلف، لهاث، لهاث.
سمعت أصواتهم:
"ارمِ... ارمِ."
رميت، لاحقت كرتي الخائبة، تمشي على استحياء، مشلولة تتخبط في الزوايا، تدوخ في المسارات، ترتطم بهدوء لا يليق.
رفعت رأسي عاليًا، زفرت.
هذه الفرصة الأخيرة، صارت الكرة في حوزتي، قد بلغت السأم من الصالة والناس. وهذا الوقت غير معلوم لي، ولكن عليّ حتمًا أن ألعب، ليس بشهية الفوز بل حتى أصرخ مثلهم، أسمع صوتي مثلهم. أرفع كفي في الهواء، ألمس كفًّا لأحد رفقاء اللعبة لأشعر بالأنس، بالبهجة، أو لأسير مع السائرين، لست أدري، فعلى أحدنا أن يكمل الرحلة، اللعبة، ويتابع المسير.
أمسكت بالكرة، بدت ثقيلة، أثقل من مقدرتي على رفعها. ضعفت عظامي، رق جلدي، غيروها لي وهم يكتمون ضحكة بسخرية، بشفقة، يلمزون بعضهم بأنه آن الأوان أن أعتزل اللعب. لم أعرهم اهتمامًا، لم أعد أشعر بوجودهم. أمسكت بالكرة، ركزت، شحذت كل خبرتي، وتذكرت كل مهاراتي في اللعب، لكن يبدو أنني لعبت بأسلوب الجدة. وقفت أمام المسار، كان طويلًا، شاقًا، صعبًا، وفي نهايته القوارير.
هذه المرة على المسار بدأ كل شيء واضحًا، واضحًا أكثر مما ينبغي. رفعت الكرة عاليًا ورميتها بكل ما أوتيت من عزيمة، هل سقطت القوارير؟ أم سقطت؟ لست أدري!
صباح حمزة فارسي هي كاتبة وروائية سعودية تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة طيبة، وحازت على جائزة التراث الشعبي السعودي ٢٠٢٠ عن حكاية من التراث الحجازي. صدر لها رواية "عازف القنبوس" ،"همهمة المحار"، "شائك كأغنية"، "توسد روحي" ، "شغف قلبي"، "وشوشة"، و"حكاوي ستي رحمة." شاركت في عدة ندوات أدبية وأمسيات شعرية وقصصية.