بكاء أبيض
عبدالكريم بن محمد النملة
لم يكن زائرًا معتادًا، كان حياةً أخرى. هكذا شعرتْ وهي تفتح له الباب وتصافح وجهه. امتدّت نظراتها متصلة، قطعها التفات الرجل إلى الخلف بريبة وخوف، دخل يمشي خلفها بعد أن غادرت هي نفسها تمامًا. رجل لا يشبههم، رجل تحوطه هيبة ما ووقار قديم. جلس الرجل ببهاء، هو لا يُخفي فرحةً مُراهقة تعبث داخله، سرور يُبديه وهو يرى هذه الفاتنة بكامل حسنها تتبسم له. تجمع كل لحظات الانفراج من أيامها وتصنع له ابتسامة تُرضيه، رجل كغيمة بيضاء، يجلله بياض فاتح. يلبس ثوبًا أبيض وغترة بيضاء وحذاء أبيض، وتُشرق في أسفل وجهه لحية بيضاء مشذبة بعناية فائقة، نعم، هو رجل لا يشبه زوارها. زوارها... بقايا رجال طوّحت بهم هاماتهم الضالة، فتناثرت رغباتهم على سفوح لياليها العابقة بروائحهم الشبقة. هذا رجل جديد، جديد جدًا. في عينيه شغف تجربة يطوّح بهامات شوقه، في لحظة يُبدي فيها تحفزه، وفي لحظة أخرى يكنّ ويستقر، فيصبّ الوقت في المسافة بينهما. هي لا تملك من نفسها غير ابتسامات تمنحها لعينيه وكأنها تستبقيه كي تعلّ من داخله شوقًا مكتنزًا ولذيذًا.
جلس وبسط كفيه بجانبه ينتظر اللحظة الفائقة، الآخرون يتحدثون... ينطلقون... وأحيانًا يُباغتون، فتمتد أيديهم تجسّ مواطن اللذّة المبتغاة. هو ساكن لا يريم. يمنحها في كل لحظة ابتسامة يحاول رسمها من ذاكرته، ولعدم تجربته، فقد مدّته ذاكرته وحياته العميقة بتصرفات عليه جديدة، لكنها ليست مستحيلة.
هي تلتهم رسائله البِكر، وترضيه بنظرات غنجة، وكأنه تلميذ جديد. تلمح شبقهم برائحتهم التي لا تبعد عن رائحة ذكور الحيوانات، مهما ادعوا نظافتهم، فرائحة رغباتهم لا يخطئها أنفها. لكن لهذا الرجل رائحة أخرى، هي ليست عطرًا فاخرًا، بل رائحة لا تبعد كثيرًا عن ذاكرتها، رائحة عبقة لها شذى أعياد، أو عودة من سفر، أو زواج، أو نجاح في امتحان دراسي، أو فرحة طفلة ترقص. وحين تذيع رائحته الحميمة، تشتمّها وهي مُغمضة العينين فتسافر بها الرائحة بعيدًا.
زاد الرجل من ابتسامته كي يُمهد لكلماته التي أبت التجربة الجديدة خروجها. لقفت حرجه فقامت من مكانها وجلست بجانبه. التفت إليها، وجهًا مدوّرًا عابقًا باللذة، وأنفًا صغيرًا مستقيمًا يمدّ صفحة وجهها بعذوبة طفلة صغيرة. الصمت لا ينقشع، لكن تجربتها هذه تحكي لها حياة أخرى لا تكون فيها اللذة عابرة مارقة، وكذلك يفعل الصمت به، فلا تجربة تمده بعنايتها، ولا نفْسٌ مثلّمة الأشواق تُحفّزه على المضي في اقتطاف اللذة المبتغاة. وهي مذ جلست بجانبه واقترب عطره من نفسها لم تملك زمام نفسها، شيء ما قام في نفسها، وكأن أحدًا بجانبها يدفعها بقوّة لعمل ما لا تدركه. الرجل لا يملك أمام هذا الصمت الممتد إلا الصبر، لعلها تبادره وتكسر هذا الصمت الذي لم يتوقعه. في لحظة واحدة تلاقت نظراتهما، كانا يغرفان من عيني بعضهما شوقهما الدفين، شوقهما القديم، وما أن امتلأت نظراتهما من بعضهما، حتى لصقت الفتاة بجانب الرجل. مدّ الرجل الوقور العابث يده اليسرى ليطوّق بها ظهر الفتاة. انزاحت قليلاً عن المقعد اللاصق لتتيح ليده المرور خلف ظهرها. وفي ذات اللحظة، أسندت الفتاة رأسها على صدر الرجل الخافق. بكت الفتاة ونشجت، بكت بقوّة لم تعهدها. كان بكاؤها يصدر من قاع قلب الرجل. وضع الرجل ذو الثياب البيضاء يده على رأس الفتاة الباكية، وهلّت دموعه ببكاء عميق.
عبدالكريم بن محمد النملة قاص وروائي. صدر له كتاب الأعمال القصصية الكاملة، ونشر أربع روايات. نشر نصوصًا في العديد من المجلات والجرائد المحلية والعربية. يمكن متابعة حسابه على تويتر @byqlb