top of page

تغريبة القافر

زهران القاسمي
مراجعة: إبراهيم فوزي
رواية، دار رشم للنشر والتوزيع، 2022
228 صفحة

تغريبة القافر

”لكنّ الماء يدرك طريقه دومًا، ودومًا ما يوجد طريق يعبره الماء.“ (تغريبة القافر، ص 132)

ظهر الصراع حول الماء جليًا في تسعينيات القرن الماضي وها هو اليوم يعود أشد ضراوة، ولقد حظيت عودة خطاب الصراع حول الماء باهتمام كبير من الأدباء بالمياه بصفتها مصدر هذا الصراع؛ لذا شهد الأدب البيئي العالمي تحولًا هيدرولوجيًا.

إن تمثلات الحياة بجانب/مع الماء في سرديات الماء تَوجُّه حديث نسبيًا في أدب التغير المناخي سواء أكان هناك فيضان (وفرة) أو جفاف (ندرة)، وهو تَوجُّه مصحوب بغياب كبير للأعمال الإبداعية السردية العربية التي ترتكز على فكرة المياه على الرغم من حضور رمز الماء بقوة في الشعر العربي بدءًا من امرئ القيس ومرورًا بذي الرمة ووصولًا إلى بدر شاكر السياب. إن هذا الحضور القوي للماء في الشعر العربي ينبثق من العقلية العربية التي عاشت صراعًا بين الجدب والماء في شبه الجزيرة العربية، صراعٌ شكلته طبيعة الأرض وظروف العيش القاسية، فأصبح العرب يتوقون للماء ويترقبون الغيث.

من هنا تأتي أهمية رواية الكاتب العماني زهران القاسمي ”تغريبة القافر“، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية 2023؛ لأنها برغم توغلها في المحلية العمانية (نقطة الانطلاق) إلا أن موضوع الماء منحها بُعدًا عالميًا. تُشكّل الرواية صراعًا بين الوفرة والندرة، وانتصارًا للخصب على الدمار، وللحياة على الموت والاندثار؛ مما أكسب الرواية سيولة وشعرية فائضة، زاد من كثافتها إحلال الضد على الضد لينيره دلاليًا في تراسل يعبث بمعطيات المنطق ويخلق وحدة الأثر بين أطراف متباينة لكن يغمرها الماء حتى الارتواء.

تتطرق الرواية للأفلاج - القنوات المائية التي تُحفَر في باطن الأرض- بصفتها نظامًا مائيًا واجتماعيًا هامًا في عمان. وتمزج الرواية الواقع بالأسطورة المتعلقة بالماء، فالرواية شديدة الواقعية رغم السحر والخيال الذي يلقي بظلاله على الأحداث. وقد يُعزى ذلك إلى أن واقعنا يحفل بالأحداث والحكايات التي ربما تفوق الخيال.

لا يُشكّل الماء في الرواية واقعًا ماديًا لموقع روائي فحسب، بل وسيلة لاستكشاف الواقع الذي نعيشه، وإعادة تشكيل مجموعة من المفاهيم التي توجهنا إلى الطريقة التي يمكننا العيش بها داخل أوطاننا؛ لأن ما حدث في قرية ”المسفاة“ إنما هو رمز لما يمكن أن يحدث في أي وطن؛ فهذه القرية الصغيرة تمثل العالم الذي أضحى الآن قرية صغيرة. من ثَمَ، تطرح الرواية تساؤلات عن ماهية الوطن، وعلاقتنا به. يقول عبدالله بن جميل (الأب) قبل وفاته لولده سالم (القافر): ”باه بلادك ما بلاد، البلاد اللي تاكل أموالك بلاد فاجرة، البلاد بو تستغلك وتاخذك تمرة وبعدين ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دور على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحق تعيش فيها ساعة“ (تغريبة القافر، ص 148). وهذا ما كرّره محسن بن سيف عندما جاء إلى القافر ليطلب منه أن يتبعه لاقتفاء أثر الماء في قريته الميتة: ”بلاد ما تبغاك اتركها، دور بلاد تعيش فيها بكرامتك لو غريب، ولا تعيش فبلاد كل همّها ترميك بأمراضها“ (تغريبة القافر، ص 173).

استخدم القاسمي لغة مترعة بالماء، فتميل بنية الجمل والعبارات إلى ”العوم“ فوق السطح، مما يجعلها مفتوحة على احتمالات مختلفة من التأويل والتفسير؛ حيث يصبح الماء (الاستعارة) بمثابة بديل للذات والوطن والإيمان والرغبة والحب وحتى الموت والفقد. القافر هو الذي يقتفي أثر الماء، فهل كان سالم القافر يفتش فقط عن عيون الماء التي أحبها؟ أم كان يقتفي أثر وطن لا يشعر فيه بالغربة؟ في أثناء بحثه عن الوطن/الماء، وجد سالم الحب”كما ينفجر الماء من قلب الحجر، ويسري الينبوع منحدرًا برقته على الأرض العطشى، وكما كان القافر يطرب لخرير الماء في الأعماق“ (تغريبة القافر، ص 135). إن المرأة هي المعادل الموضوعي للماء/الوطن؛ فهي صورة للخصب والنماء، ووجه من وجوه الاستمرار والديمومة والحياة، وهذا ما ذهب إليه غاستون باشلار حينما أشار إلى ”أن طبيعة المرأة أقرب إلى الماء والتراب“ (شاعرية أحلام يقظة، ص 67). ولذلك أطلّت نصرا بنت رمضان (محبوبة سالم وزوجته) عليه عند لقائهما بعد غياب ”بابتسامتها ذات الينبوع العذب الذي شرب منه من قبل، أذهبت تعبه وظمأه، لكنه شعر بظمأ أشد من ظمأ الماء“ (تغريبة القافر، ص 139).

في كتابه ”الحداثة والسيولة“، يحاول عالم الاجتماع زيجمونت باومان تشخيص عصرنا ومعطياته وطبيعته بعيدًا عن المستوى الفكري التنظيري الذي أسست له الحداثة الصلبة بما طرحته من أفكار كلّية ليمس تجليات هذا الفكر التنظيري بالحياة اليومية للمجتمعات المعاصرة وما يتسم به من حركة وصفها باومان بالسائلة، تحكمها الآلة الاستهلاكية التي تصنع هوية جديدة للإنسان وللمجتمعات المعاصرة تتجاوز المحددات الصلبة من عادات وتقاليد وأعراف وتاريخ وتصنع هوية هجينة تجمع الكل في إطار الكائن السائل الذي يُعرّف نفسه ويحدد قيمته وفق معايير خارجة عن كل ثابت ومستقر من تراث أو تاريخ أو عادات صلبة. إن الماء بخاصية السيولة يسيطر على كل مباديء الكاتب زهران القاسمي داخل الرواية. الماء في تغريبة القافر - كما في الحقيقة - متمرد، مقاوم، لا يمكن التحكم فيه: يهبط الماء من السماء، أو يخرج من باطن الأرض، لا يعبأ بالحدود الجغرافية، وليس له وجه/ صورة واحد(ة)، هو مصدر للحياة وقد يكون طريقًا للهلاك والغرق: ”نعم، للماء أيضا مفاتيحه، هذا ما يعرفه القافر من خلال خبرته التي راكمها طوال سنين عمله في تتبع المياه، فهنالك -على حد قوله- مياه كريمة قريبة من السطح تسري في تربة حصويّة أو رملية تقول لك تعالى خذني، وهناك مياه مخادعة، تسكن التربة الرخوة والطمي، تبدو من خلال الثّرى وفيرةً، وما إن تخفر الأرض وتشقّ المجاري لتتبعها، حتى تخسر وقتك وجهدك كله“ (تغريبة القافر، ص 168).

تزخر تغريبة القافر بالشخوص المسكونة بالسحر، لكل منهم حكاية وقصة مليئة بالعبر، ولكنها تتدفق لتصب في منبع واحد، فانسابت الحكايات جميعها كالماء، مُتماسكة ومُترابطة. تبدأ حكاية بطلنا سالم بن عبدالله بن جميل بالموت والغرق. يُنتشل من رحم الموت، لتبدأ رحلته مع الماء/الحياة، وتلك العلاقة السحرية التي نشأت واللعنة التي حلت به لأنه خرج من الماء ولابد أن يعود إليه؛ فهو يستطيع أن يسمع الماء مهما كان بعيداً ومتوارياً وكأنه يناديه. يسعى سالم إلى إطلاق سراح الماء المحبوس خلف الصخور أو في باطن الأرض، ولا يدري أنه هو السجين الحقيقي. يسأل نفسه في لحظة يأس عن مصدر صوت الماء، هل مصدره أعماق الأرض أم أعماق نفسه؟ تنتهي الرواية نهاية مفتوحة؛ حيث ”انطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء“ (تغريبة القافر، ص 228) لتَفتح بذلك أبوابًا للعديد من التساؤلات.

أخيرًا، تغريبة القافر تخليد للذاكرة المحلية العمانية ونظام الأفلاج، واحتفاء باللهجة العمانية من خلال تتبع حياة البطل (القافر) منذ اللحظة التي خرجت فيها الحياة من رحم الموت. للماء ثلاثة خصائص يمكن تطبيقها على سرديات الماء إذا نظرنا لتلك السرديات على أنها ذاتها نص سائل. أولاً: الماء في حالة حركة مستمرة، دائم الجريان من منبعه لمصبه، وحتى الماء الراكد جزيئاته تتحرك. ثانيًا: الماء لا يمكن تحديد شكله؛ فهو يتخذ شكل الوعاء الذي يوضع فيه، ويخترق التشققات. ثالثًا: الماء يتجاوز الحدود الجغرافية ويربط الأماكن/ البلدان معًا. لذلك يمكننا القول إن تغريبة القافر سردية مائية بامتياز.
***
زهران القاسمي شاعر وروائي عُماني، من مواليد دماء والطائيين، سلطنة عُمان، عام 1974. صدر له أربع روايات: ”جبل الشوع“ (2013)، ”القنّاص“ (2014)، ”جوع العسل“ (2017) و”تغريبة القافر“ (2021)، بالإضافة إلى عشرة دواوين شعرية و”سيرة الحجر 1“ (قصص قصيرة، 2009) و”سيرة الحجر 2“ (نصوص، 2011).

إبراهيم فوزي، أكاديمي ومترجم أدبي مصري، يعمل مدرسًا مساعدًا للأدب الإنجليزي، ومحررًا أدبيَا بمجلة روايات، ومُقّدم بودكاست مع نيو بوكس نيتورك New Books Network. حصل على درجة الماجستير في الأدب المقارن عام 2021، وحصلت رسالته للماجستير على جائزة جامعة الفيوم بمصر لأفضل رسالة ماجستير 2023. نُشرت ترجماته ومراجعاته النقدية بالعديد من المجلات الإنجليزية والعربية، مثل آراب ليت الفصلية ArabLit Quarterly والمركز ريفيو The Markaz Review وكلمات بلا حدود Words Without Borders ومجلة الشعر الحديث المترجم Modern Poetry in Translation وأخبار الأدب المصرية والرافد الإماراتية وغيرها. يصدر كتابه (الانتماء للسجن Belonging to Prison) هذا الصيف مع دار نشر كامبردج سكولرز. بتمويل كامل من جائزة الشيخ زايد للكتاب، شارك في المدرسة الصيفية للترجمة والكتابة الإبداعية التي تنظمها جامعة إيست أنجليا بالمملكة المتحدة بالتعاون مع المركز البريطاني للترجمة الأدبية. كما فاز بمنحة المترجمين البازغين التي يقدمها المركز القومي للكتابة بالمملكة المتحدة بتمويل من جائزة الشيخ زايد للكتاب. وصلت ترجمته لرواية خالد النصرالله (الخط الأبيض من الليل) للقائمة القصيرة بجائزة English PEN 2023 وتم إدراج ترجمته لقصة (زجاج) لريما حمود في أنطولوجيا أفضل الترجمات الأدبية الصادرة عن دار نشر ديب فيلوم Deep Vellum.

مراجعة كتاب
bottom of page