في مرآب السيارات
سميحة بشير
كان أبغض شيء في حياتي هو مرافقة أختي لبيت خالتي نهاية كل أسبوع؛ لتقابل ابنة خالتي التي تعدُّها صديقتها المقربة. كنت أجبر على ذلك من قِبل أمي التي تقلق بطبيعة الحال على أبنائها.
في طريقنا إلى البيت كان لا بد لنا من عبور مرآب السيارات القديم والمخيف جدًا، كان حافلًا بالسيارات بأنواعها وأشكالها، البعض منها قابلة للإصلاح، وأغلبها كانت محطمة تمامًا، تُركت هناك منذ سنين حتى غاصت عجلاتها تحت التراب وتآكلت بعض أجزائها الصدئة، وبهتت ألوانها بفعل تكتل الغبار وأشعة الشمس، لتبدو وكأنها تُحف أثرية عريقة.
كانت أختي تتعمد إثارة رعبي من خلال تلك السيارات التي تتحول في الظلام إلى وجوه شريرة تحدق إليَّ باستياء، فتقوم بدفعي إليها بكل قوتها أو تحملني من خلف ذراعي وتشرع في إدخالي إليها من خلال نوافذها المكسورة وهي تتلذذ بذلك وتقهقه بأعلى صوتها، فأتخيل أن بداخلها شبحًا قابعًا تحت كراسيها المتهالكة يريد أن يلتهمني، فأفقد السيطرة على جسدي وأظل أركل بقدمي وأحرك ذراعيَّ في كل الاتجاهات وأصرخ كمن بها مس شيطاني، ثم تتركني وشأني بعد أن يلتفت إلينا الناس.
لم تكن أختي لتفعل بي كل ذلك لولا الضغط الذي تعانيه من أمي التي ترغمها على أخذي معها، وكانت بدورها تنزعج من أمي التي لا تريد أن تتفهم رغبتها في الإحساس ببعضٍ من الاستقلالية والخصوصية، وفي منحها أيضًا للثقة لأنها لم تعد صغيرة فقد بلغت السابعة عشرة وهي الآن جديرة بتحمل مسؤولية نفسها على حد تعبيرها. وفي كل مرة كنت أنا ضحية شجارهما هذا، وأكون المتنفس الوحيد لأختي المراهقة المتمردة.
إحدى ممارساتها الانتقامية المفضلة التي كانت تنفذها عليّ هي عندما نكون في طريقنا لعبور المرآب، فتتعمد الركض بعيدًا حتى تتجاوزه ثم تنتظر ردة فعلي وهي تضحك بشدة حتى يتبلل وجهها بالدموع. في حين أبقى أنا وحدي عالقة في المنتصف أبكي من شدة الخوف، فأقف محتارة لوقت طويل بين إكمال الطريق وبين العودة للبيت، وفي الأخير أرغم نفسي على الركض واللحاق بها.
في اليوم الذي نعود فيه من بيت خالتي كان معروفًا عني أني لا أنام ليلته، وأبقى طوال الوقت متشبثة بأمي التي تجاهد لتهدئة روعي وتكذيب أقاويل أختي حول وجود أشباح وجثث حية في ذلك المرآب، وعلى الرغم من أني أقرُّ بعدم وجود أية أشباح إلا أن هناك صوتًا في داخلي يؤمن بجميع خرافات أختي.
اعتقدت بأن أمي لم تكن تكترث بشناعة ما تفعله أختي بي رغم أني شكوت لها كثيرًا وعبرت لها عن مشاعر الرعب التي تعتريني لحظة عبورنا المرآب، لكنها كانت تكتفي بتكرار تلك الجملة التي تضرم نار الحقد في صدري تجاه أختي:
"مسكينة هي اعذريها".
تمنيت لو كان أبي حيًا متأكدة من أنه كان سيتصرف بطريقة أفضل من أمي في تأديب تلك الغبية. كيف تراها مسكينة ولا تراني كذلك رغم أني في الثامنة من عمري والمغلوبة دائمًا، ألهذا الحد تخاف منها أمي؟ لو كنت مكانها لأبرحتها ضربًا ولن أبالي بتهديداتها في ترك البيت والهرب مع ابنة خالتي، فحتمًا ستعودان يوماً ما ناكستين رأسيهما ونادمتين!
تعمدتْ أختي التأخر عن العودة إلى البيت في إحدى المرات حتى الساعة الثانية صباحًا لتتسلى في إخافتي في ظلمة الليل وخلو الشوارع من الناس. كانت تصدر أصواتًا غريبة ومخيفة ونحن في المرآب، حاولت أن أتماسك إلا أن صدى صوتها كان يخيفني حتى شعرت بسروالي يتبلل فانفجرت ضاحكة بعد رؤيتها لذلك. ولم تمضِ ثوانٍ حتى توقفت عن الضحك فجأة وتجمدت واقفة كالتمثال بعد أن سمعت صوتًا عاليًا ينادي باسمها من الخلف:
"نجوى! نجوى!"
ركضتُ نحوها والتصقت بها وصرنا نرتجف معًا.
لم تتجرأ أختي على الالتفات لذلك الصوت فدفعتني عنها وشرعت بالركض، بينما استطعت أنا اختلاس النظر للخلف لأتفاجأ بشبح أسود يركض نحونا. فصرخت بأعلى صوتي والتحقت بأختي.
اقترب الشبح منا خلال ثوانٍ قليلة قائلًا:
"نجوى توقفي أنا سارة!"
لقد كانت ابنة خالتي.. لا أدري ما الذي أخرجها في هذا الوقت، عادت إليها أختي وهي تلهث وتوبخها على إفزاعنا. استغرقت ابنة خالتي في الضحك بصوت عالٍ جدًا، حتى إن أختي بادلتني نظرات التعجب.
"لماذا التحقتِ بنا في هذا الوقت المتأخر؟"
"بعد ذهابكما مباشرة طلبت أمي مني الذهاب لشراء بعض الخضار."
صمتت أختي طويلًا قبل أن تجيب متعجبة
"أي سوق.. الأسواق جميعها مقفلة…"
"هناك دكان واحد مفتوح على مدار ٢٤ ساعة."
وضعت ابنة خالتي ذراعها الأيمن على كتف أختي وأكملنا الطريق وهما يتبادلان أطراف الحديث. كان قلبي لا يزال ينبض بقوة وأتعرق من شدة الخوف، فسمعت أختي تهمس لابنة خالتي وتقترح عليها عمل مقلب لي، فصرخت فيهما "دعاني وشأني وإلا اشتكيتكما عند ماما!" حاولت أن أتظاهر بالقوة حتى فضحتني دموعي، أخذتا تضحكان وتشيران إلى ملابسي المبللة، كانت ابنة خالتي تضحك بشكل غريب، نبرتها عالية جدًا.
بعد خطوات قليلة تظاهرا بأنهما نسيا المقلب بخوضهما في عدة أحاديث متنوعة حتى إنني شعرت بالارتياح إزاء ذلك، وفجأة رأيتهما يركضان بعيدًا ويضحكان، كانت تلك فكرة أختي الكريهة. ركضت خلفهما بأقصى ما عندي حتى اقتربت من أختي، وكانت ابنة خالتي متقدمة عنا كثيرًا تركض بسرعة فائقة.
توقفنا عن الركض وأخذنا ننظر مشدوهين إلى قدميها السريعتين، ركزنا قليلًا لنكتشف أنها لم تكن تركض بقدميها، كأن الهواء كان يحملها ويجري بها، حتى رأيناها تغوص في السيارات وهي تضحك بقوة إلى أن انقطعت ضحكتها واختفت أمام أعيننا.
لأسبوع كانت تفشل محاولات نومنا أنا وأختي رغم وجودنا في غرفة أمي. ولم نفكر حتى اليوم في عبور ذلك المرآب مجددًا أو الاقتراب منه.
سميحة بشير هي كاتبة قصص قصيرة من مكة المكرمة، وكاتبة محتوى إبداعي، نُشر لها قصة في موقع 'سرد' وقصص أخرى لم تنشر، وتقدم نصائح ومعلومات كتابية في حسابها على تويتر @samiha_bashirr