أمنية
عبدالكريم النملة
لم تفق العجوز الغارقة في منامها رغم الطرقات المتصاعدة على الباب، كان نومها عميقًا على غير عادتها، فلم تنم ليلة كاملة متصلة، بل كان نومها قلقًا متقطّعًا، وكانت أحلامها متعاقبة. لا تذكر ليلة نامت فيها دون أن يباغتها حلم ما ويكون شقيّا في أحيانٍ كثيرة. كرّر الطارق الضربات القويّة على الباب علّها توقظ نوم المرأة العجوز كما استيقظ قلبه يومًا قريبًا حين طرقته ذكرى العجوز التي لا يعرف تمامًا هل هي لا زالت على قيد الحياة أم غادرتْ، وحين طال مُكْثه منتظرًا، دسّ فمه بين درفتيّ الباب وصاح بأعلى صوته مناديًا.
سمعت العجوز صوتاً لم تتبيّن مصدره بداية ، ثم لم تتبيّن صاحبه ، لكنّ الصوت أيقظها ، فقامت متثاقلة من وقع نوم عميق وغريب، استندت إلى الجدار بجانب سريرها، وبدأت تسير بخطوات بطيئة نحو مصدر الصوت. كلما اقتربت من الباب ازداد صياح الطارق وتتابعت طرقاته على الباب. كان الطارق بلباس من أتى من سفر بعيد، بجانبه حقيبة متوسطة الحجم لكنّها ثقيلة. كان الطارق متحمّسًا لفتح الباب، وكان جسده يهتزّ، أما وقد سمع خشخشة خلف الباب، فقد سكن واستقرّ، وكلّ شوق الدنيا تكوّم بين عينيه.
اقتربت العجوز من الباب وكأنّها خمّنت صوت صياح المُنادي. فتحت الباب المهترئ بصعوبة ، وما إن رأت شبح الواقف أمامها حتى صرخت دون أن تتبيّن وجهه في عتمة المساء. فتح ذراعيه وتلقف العجوز المنسكبة عليه. مرّت دقائق وهما في غياب شوق محض. كانت عيونهما مغمضة. تسري في جوانبها قطرات دموع حارقة. رأتْ رضيعها وهو مستلقٍ بين ذراعيها وفمه يتكوّر حين ألقمته ثديها، وبدأت أنفاسه تتلاحق، ثمّ رأته يركض نحوها وهي تُشير إليه بلعبته الأثيرة إلى نفْسه، ولا تنسى يوم ودّعها لغياب قد يطول. تتذكّر أنها بحثت عن الشمس التي حجبتها غيوم سود لا تحمل مطرًا، ثمّ أزاحتها ريحٌ شمالية مندفعة .
أزاح الابن ذراعيه عن جسد أمّه بتدرّج بطيء. مسح بيده اليمنى دموع أمّه العجوز وحضنها بذراعه الأيمن فيما أدخل بيده اليسرى حقيبته، ودفع الباب المهترئ بقدمه .
جلست العجوز بجانب ابنها الذي جلس على حافة المقعد كي يقابل وجهها المسكين، لم تتسع اللحظات لفرط سعادتها. تلمّست وجه ابنها العائد بعد غياب طويل ، ظنّت ألّا تلقاه ثانية وهو يضمّها إلى قلبه وكأنّه يتمنّى لو تجسّدت قلباً له. سألها عن نفْسها ..عن حياتها ..
لم تكن إجاباتها سوى دموع وبكاء ونشيج وفرح. رفعت رأسه. فتحت عينيها جيّدًا لتتبيّن إن كانت ملامحه تبدّلت بعد كلّ سنين الغياب الطويلة، لكنّها لم ترَ أيّ تغيير في ملامحه. هاهو كما انتظر في ذاكرتها كلّ السنين الماضيات. هاهو شاربه الكثّ وذقنه المحلوق، لم يتغيّر مطلقًا وكأنّه غادرها ليلة البارحة. بعد تناول العشاء ذهبا إلى غرفته المغلقة منذ أن غادرها. كان المفتاح معه. أخرجه وفتح باب الغرفة ، آه .. هكذا تنهدت العجوز حين انتشرت رائحة ابنها القديمة التي لم تغادر الغرفة وتشمّمتها بعمق وطول غياب. ارتمى ابنها على السرير وراح يغطّ في النوم ، رفعت العجوز الغطاء وغطته. خرجت وأغلقت الباب وذهبت إلى النوم .
في الصباح داعبتها ليلة الأمس الجميلة. أفعمتْ مشاعرها بنشاط وتوثّبْ. قامت من سريرها نشِطة وقبل أن تذهب لتوقظ ابنها ذهبتْ لتعدّ طعام الإفطار. حين أعدّتْ الإفطار ذهبت لتوقظه. طرقت الباب، لم تسمع صوته. أدارت أكرة الباب. السرير فارغ يعلوه غبار مُترب، ولا أثر لابنها أو للبارحة. أدركتْ أنّها كانت ليلة زائرة .
عبدالكريم بن محمد النملة قاص وروائي. صدر له كتاب الأعمال القصصية الكاملة، ونشر أربع روايات. نشر نصوصًا في العديد من المجلات والجرائد المحلية والعربية. يمكن متابعة حسابه على تويتر @byqlb