الحركة والاستقرار: كيف يتصرف زيبالد في السرد؟
محمد العرادي
بدأت كتابة القصة القصيرة في سنة بعيدة، وكنت ـ وما زلت بدرجة أقل- أجد صعوبة، إضافة إلى كل صعوبات كتابة السرد في الانتقال من مقطع سردي إلى آخر، الاسترسال في مشهد واحد أو فكرة ما داخل السرد أسهل من تركيب مقاطع سردية مترابطة، إذ تحتاج روابط مقنعة تربط بين الموضوعات أو الأشياء التي تتناولها المقاطع و تحتاج جملاً وتقنيات تنهي بها المقاطع وجملاً أخرى تستفتح بها. وكنت كثيراً – كما أفعل الآن – ما أستخدم في استفتاح المقاطع صيغ الفعل الناقص" كان"ــ كان الأب منزعجاً، كانت تلك الأيام، كنتُ واقفاً .. وأستخدم الصيغ الزمانية لأجل الانتقال: قبل ذلك، بعد هذا، في تلك الأيام، أو صيغاً أقل مباشرة: بعد أن تزوج من تلك المرأة، بعد أن أصابه المرض صار يحب كذا .. وكان – مرة أخرى – هذا ضعفاً لغوياً ومحدودية في الابتكار السردي.
ولما كنت متنبهاً لهذه الصعوبة حاولت أن أعرف كيف تصرف الروائيون الذين أقرأ لهم، فصرت أتتبع الجمل الانتقالية التي تفتح المساحات للسرد، محاولاً فهم الذي يحدث، وقد ساعدني هذا في قراءة السرد أكثر مما ساعدني على كتابته، لأن فهم الحركة السردية والاستقرار وعلاقة المقاطع السردية ببعضها -خصوصا مع البناء السردي الأكثر تعقيدا- مهم لفهم بناء النص السردي بالتالي مهم لتوليد المعنى. وأظن أني اكتسبت بعض الخبرة التي أود مشاركتها مع من يقرأ السرد أو يكتبه.
لن أسعى لوضع مصطلح يوضّح معنى الحركة السردية لكني هنا لا أقصد حركة الحبكة التي تكون انتقالاً من الوضع الأولي الذي يشكل أزمة ما وتتصاعد الحركة السردية إلى قمة التعقيد -الوضع الثاني- ثم الحل الوضع الثالث كما يحدث في الروايات الحبكيّة الرديئة(الروايات التجارية التي تعتمد في جوهرها على الحكاية)، بل أقصد كل انتقال في السرد من موضوع إلى موضوع، من داخل الموضوع إلى خارجه، من الكل إلى الجزء، من الواقع إلى غير الواقع، من زمان إلى زمان، من مكان إلى مكان ... فحركات الحبكة حركات وضع، حركات كبيرة تتشكل عبرة تراكم سردي يشمل عددا كبيرا من الصفحات أو تراكم المشاهد في الأفلام، أما الحركة السردية حركات صغيرة تشبه القطع والانتقال في مشاهد الأفلام، أي أنها مونتاج سردي يشبه ويختلف عن المونتاج السينمائي. والاستقرار استمرار السرد في الموضوع أو الزمن أو المكان ... كما يحدث في المشاهد السينمائية الطويلة التي تخلو من القطع.
لو فتحتَ عشوائياً أي صفحة من أي جزء من أعمال دستويفسكي ستجده كثيراً ما يستخدم الأفعال الناقصة أو صيغ زمنية مباشرة وغير مباشرة، بحسب صياغة المترجم وإلا ما أدري كيف صياغته في اللغة الروسية. أحمل الآن الجزء الثاني من طبعة الهيئة العامة المصرية للكتب وسأفتح على أي صفحة وأتتبع الجمل المفتاحية في المقاطع الانتقالية:
"وذات يوم، وكنت مريضة جداً، جلجلت في مدخل …"
"كنت أتصور هذا الألم الطويل …"
"وفي المساء، عند الشفق، انتهزت …"
"كنت أمسك بين يدي الكتاب …"
"وفي الغداة، بعد العشاء…"
وهكذا. ترى أن هذه الاقتباسات لا تخرج من أنها قطع وحركة في الزمن أو قطع وحركة من موضوع إلى موضوع، إلا أن دستويفسكي يتحرك في السرد بحركة تقليدية إلى الأمام غالباً، لا يدور ولا ينعطف ويعود، كما يفعل زيبالد. ها أنا أستخدم الآن تقنية الانتقال من موضوع (دستويفسكي) إلى موضوع آخر (زيبالد) بنفي التشابه: دستويفسكي لا يشبه زيبالد الذي كذا وكذا ... ثم أنقل السرد إلى زيبالد، وروايته دوار . أحاسيس.
الحركة والاستقرار: الفصل الأول من رواية دوار . أحاسيس.
ربما بالغت حينما جعلت عنوان المقال عاماً عن تصرف زيبالد في السرد إذ إني سوف أتتبع – ليس تتبعاً وافياً- قدر استطاعتي تصرف زيبالد في الفصل الأول الذي يروي فيه بعض غراميات الجندي الرومانسي هنري بيل.
يستفتح الراوي الفصل الأول بتموضع زماني "في منتصف مايو من العام ١٨٠٠ زحف نابليون برفقة ٣٦ ألف جندي .." يستقر السرد في هذا المقطع، واصفاً الحملة العسكرية وطريقها عبر جبال الألب، حتى يصل إلى الحركة الأولى في السرد، "وكان هنري بيل من المشاركين القلائل الذين لم يطوهم النسيان في هذا العبور ... كان آنذاك في السابعة عشرة من عمره، …" تَرى إذا الحركة التي يمكن أن نصنفها باعتبارها حركة داخل الموضوع، من الكل (جيش نابليون) إلى الجزء (الجندي هنري بيل). هل يذكرك هذا بفلم إنقاذ الجندي رايان، في المشاهد الأولى التي تصور الإنزال العسكري على النورماندي، إذ تظهر في الكادر مجموعة من زوارق ناقلة للجند وعدد كبير من الجند ثم تنتقل الصورة إلى النقيب جون ميلر.
لا يستقر السرد كثيراً عند الجندي هنري بيل وهو في هذا العبور، حتى يبدأ الراوي باستغلال هذه الحركة -الانتقال إلى هنري بيل- ليترك حملة نابليون وجبال الألب ويذهب -السرد- أكثر باتجاه هنري بيل، من خلال هذه الجملة "تظهر صعوبات التذكر المختلفة بجلاء في هذه التدوينات التي يحاول فيها هنري بيل وهو في الثانية والخمسين من العمر ... استدعاء مشاق تلك الأيام من الذاكرة."
حركة زمنية واسعة من الشاب هنري بيل الذي عمره ١٧ عاماً إلى بيل الخمسيني الذي يتذكر. أي نحن الآن داخل ذاكرة بيل. لتكون هذه هي الحركة الثالثة.
جيش نابليون : الجندي هنري بيل داخل الجيش : ذاكرة هنري بيل الخمسيني من خلال تدويناته.
الحركة السردية عبر الذاكرة من أكثر الحركات تقليدية استخداماً ومثلها مثل تحريك السرد عبر الأحلام، تعطي الراوي حرية كبيرة ومساحة شاسعة ليحرك السرد كما يريد، حيث من الممكن أن تتذكر/تحلم الشخصية بأي شيء يمكن أن يخطر على بال المؤلف، إلا أن مساحة الحركة الحلمية أوسع لأنها لا تتقيد بشروط واقع ما كما في التذكر.
يستقر السرد الآن داخل تدوينات/ ذاكرة هنري بيل الخمسيني في جدل يقوده الراوي بين ما وقع لبيل فعلاً وما يتذكره من مشاركته في العبور النابليوني لجبال الألب. مستفيداً من حرية حركة الذاكرة/التدوين ينعطف السرد إلى مكان خاص داخل تلك الذاكرة/التدوينات "يكتب بيل أنه ظل لوقت طويل يعتقد بأنه قادر على تذكر كل تفاصيل هذه الرحلة، خصوصا تلك الصورة التي تبدت فيها للمرة الأولى مدينة (إيفريا) وقت تلاشي الضوء .."
لاحظ أن الانتقال عند زيبالد يستغرق جملاً طويلة بعكس طريقة دستويفسكي السريعة والمباشرة والتي لا تحتاج إلى تمهيد. على أي حال تصل هذه الحركة بالسرد إلى مدينة إيفريا، ليستقر في ايفريا حينما كان بيل جندياً لكن من خلال تدويناته وما يتذكره "في إيفريا حيث شغل الجيش الذي خيم هناك كل البيوت والميادين …" حتى تأتي حركة سردية مكانية تبدأ بجملة فعلية -حسب الترجمة العربية- "ذهب بشيء من روح المغامرة، ... إلى مسرح إمبوريوم حيث قدمت في هذه الليلة ... أوبرا الزواج السري."
في هذه الحركة المكانية ينتقل السرد انتقالاً مكانياً من مكان تخييم الجيش غير المحدد في إفريا، إلى موضع مكاني محدد: مسرح إمبوريوم، يستقر السرد داخل المسرح واصفاً أثر الأوبرا على بيل، وكيف شكلت هذه الأوبرا فكرته عن السعادة. يتفاعل زيبالد مع السرد في هذا المقطع الذي صار فيه موضوع السرد ممثلة الأوبرا، حيث يغادر بيل المسرح وعنده قناعة بأن الممثلة يمكنها أن تمنحه السعادة، وصار عنده قناعة بأن السعادة ‘‘ليست في باريس حيثما كان يخمن ... وليست في جبال دوفينيه التي كان يحن إليها ... بل في إيطاليا‘‘ انظر كيف تفتح تقنية النفي مساحات من الممكن أن يتحرك السرد خلالها فلا حصر لما يمكن نفيه.
بعد أن شاهد فاضل مدرسة المشاغبين لم يعد يفكر بأن السعادة في أيامه القديمة كما كان يتوهم/ لم تبق عنده رغبة في تناول الطعام الذي أعده / لم يشعر بالبهجة التي شعر بها مع زوجته ...
ثم يفتح زيبالد إمكانية أخرى في السرد مستخدما النفي أيضاً "لم يكن للنكات المقززة التي أطلقها النقيب في صباح اليوم التالي عن الأخلاق المشبوهة لنساء المسرح أن تغير هذه القناعة" يربط زيبالد بين هذا الجزء وما قبله من خلال النكات التي أطلقها النقيب عن موضوع في الجزء الأول(نساء المسرح)، ثم يكمل: "كان ذلك – أي إطلاق النكت- وهما على صهوة الخيل في طريقهما إلى ميلانو" وسيتحرك السرد حركة كبيرة من بعد هذا التمهيد إلى ميلانو.
جيش نابليون: الجندي هنري بيل داخل الجيش: ذاكرة هنري بيل الخمسيني من خلال تدويناته: مدينة إيفريا: دخول مسرح إمبوريوم: التمهيد للخروج إلى ميلانو. انظر إلى هذا التعقيد الحي والجميل في الحركة وفي ربط موضوعات لا تبدو ذات صلة.
حركة سردية كبيرة ومباشرة مثل التموضع الزماني الذي افتتح فيه الراوي السرد ‘‘ في ٢٣ سبتمبر ١٨٠٠، أي بعد ثلاثة شهور من وصوله إلى ميلانو، يُلحق هنري بيل ... بفرقة فرسان الدراكون‘‘
يستقر السرد في تأمل أثر الزي العسكري الذي حصل عليه بيل بعد التحاقه بفرقة الفرسان، وهذا ثاني استقرار يبحث فيه الراوي أثر الأشياء على بيل. "يظن بيل أنه يدرك انعكاس الانطباع الذي يتركه في عيون نساء ميلانو، ... يجول فارس الدراكون ذو السبعة عشر عاماً بعد ارتدائه الزي العسكري بانتصاب قضيبي، …" حتى يصل السرد إلى اسم أنجيلا "هدف تعبّده الغرامي هو أنجيلا بييتراغروا" وهذا الذِكر لأنجيلا تمهيد للحركة السردية التالية.
"بعد ذلك بأحد عشر عاماً، عندما يزور بيل ميلانو وأنجيلا التي لا تُنسى بعد غياب طويل، …" حركة سردية زمانية طويلة في ذات المكان وفي ذات الموضوع، ميلانو وأنجيلا بعد أحد عشر عاما، وتَرى الآن كيف ربط بين نهاية المقطع الأول وبداية الثاني من خلال أنجيلا، وكيف استخدم انجيلا ليحرك السرد ثم يستقر السرد في هذه المنطقة: علاقة بيل بأنجيلا، إلى أن تطلب منه مغادرة ميلانو.
ميلانو في ٢٣ سبتمبر ١٨٠٠: غراميات بيل ومغامراته الجنسية ولقاء أنجيلا: جزء من هذه الغراميات العودة لأنجيلا بعد أحد عشر عامًا: الخروج من ميلانو بطلب من أنجيلا ١٨١١م.
يخرج بيل من ميلانو وهنا تأتي جملة الانتقال: "وعند حلول الليل تتسلل إليه في الأثناء الميلانخوليا المعهودة، ومشاعر مشابهة بالذنب والدونية، كالتي نزلت به للمرة الأولى بقوة نهاية العام ١٨٠٠... طوال صيف ذلك العام." يصنع زيبالد حركة زمانية من خلال التشبيه، وهذه حركة حرّة إذ تسمح للمؤلف بأن يشبه ما يشاء بما يشاء، بالتالي يمكن أن يتحرك من أن نقطة داخل السرد إلى أي نقطة أخرى بحرية كبيرة. يتحرك في هذا المقطع من لحظة الخروج من ميلانو ١٨١١ ويعود إلى صيف ١٨٠٠.
رأى مسعود سيارة تمر أمامه، تشبه السيارة التي اشتراها والده أثناء دراسته في القاهرة ... ثم يتحرك السرد إلى الأب وهو طالب في القاهرة. // شعر مسعود بخوف مثل الخوف الذي شعر به قبل معركة تحرير الفاو ... ثم يتحرك السرد إلى معركة الفاو مثلاً
قرأت منذ أيام قصة (حصاني الأدهم) للقاص السعودي عبد الله ناصر، قصة ممتازة منشورة على مجلة القافلة. استخدم فيها التشبيه لتحريك السرد حركة بسيطة لم يكملها لكنها كافية لتُريك كيف يمكن أن يفتح التشبيه الحرية للسرد ليتحرك كيفما يشاء:
‘‘على أني ما كنت لأمانع لو كان عندي حصان بني مثل «ويسل جاكيت»، فرس السباق الذي خلده الرسام البريطاني جورج ستابس‘‘
هل ترى كيف انتقل من موضوع (حصانه البني) إلى موضوع جديد (الحصان ويسل جاكيت) وكان من السهل عليه أن يكمل السرد في اتجاه ويسل جاكيت أو لوحات جروج ستابس أو سباقات الخيل أو تراب حلبات سباقات الخيل أو زوجة جورج ستابس أو الطبيب البيطري الذي يعالج ويسل جاكيت ...
أعود إلى السيد زيبالد، إذ يبدأ مقطعاً جديداً بحركة زمانية: "في مطلع العام ١٨٠١ شاهد بيل في مسرح لا سكالا بميلانو أوبرا الزواج السري من جديد" ليستقر السرد ثم ينتقل بحركة صغيرة ليختم بها هذه الفقرة: "وبالنظر إلى هذه الظروف بدا له هذا مهماً على وجه الخصوص، عندما قرأ بعد بضعة أيام من هذه الأمسية خالدة …" ثم يسرد ملابسات موت شخص لا يهمنا هنا.
يستخدم زيبالد الحركة السردية الزمنية التقليدية ( التصريح بالوقت/التاريخ) ليحافظ على ترتيب الأحداث في ذهن القارئ لأنه يقفز بالسرد قفزات كبيرة إلى الأمام والخلف ، لكنه يغير من نمطية هذه الحركة السردية (التصريح بالتاريخ). جرت العادة أن ذكر السنة يرتبط بحدث غير يومي، حدث لندرته يمكن أن تُؤرخ به الأعوام. زواج، وفاة، زلزال، حريق هائل، حرب، التعرف إلى شخص تستمر علاقتنا به لسنوات، انتقال إلى مدينة جديدة، زحف نابليون ...
"في مطلع العام ١٨٠١ شاهد مسرحية" يوحي هذا الخروج عن المعتاد بأهمية ذلك الحدث الذي سُجل باعتباره حدثاً سنوياً، وتؤكد هذه الصياغة على أثر هذا الحدث (مشاهدة مسرحية) في حياة بيل، إذ تتساوى الآن مشاهدة المسرحية مع الأحداث الهائلة.
انظر وقع هذه الجملة في نفسك: في العام ١٩٧٣ جلس فاضل عباس مع زوجته رحيمة على طاولة الطعام يأكلان البيض ...
بهذه الصياغة يتغير معنى تلك الجلسة، فتأخذ من معنى الحدث العظيم والتاريخي، أي: تحويل الهامشي واليومي إلى مركزي وتاريخي. وربما ظن القارئ أن هذه الجلسة لقاءٌ بعد انفصال كبير، أو لعله يترقب حدثًا هائلاً يقع أثناء هذه الجلسة، ... أو لا أعلم ماذا تحديدًا لكنها بالتأكيد ليست مثل تلك الجلسة التي لا ترتبط بتاريخ محدد.
يفتتح زيبالد فقرة جديدة وبحركة سردية مركبة: " احتاج بيل وقتاً طويلاً لتهدئة نفسه بعض الشيء من أثر هذه الحوادث. وعانى طوال فترة الربيع من نوبات حمى وتشنجات معوية، …"
في العبارة الأولى ينتقل إلى موضوع جديد (ما يحتاجه بيل) وهذه حركة حرّة واسعة يمكن أن تتجه في أي اتجاه، مثلها مثل العبارة التي تليها (عانى طوال فترة الربيع ... ) لكن هذه العبارة تتركب من انتقال إلى موضوع (ما يعانيه) وانتقال زمني (فترة الربيع).
وهذا جزء من التعقيد الذي يميز أسلوب زيبالد وقد كان يكفيه أن يفتتح الفقرة بالعبارة الأولى ويُحرك السرد باتجاه (مايحتاجه بيل).
يستقر السرد متتبعاً مرض بيل ثم ينتقل بحركة سردية زمكانية فريدة (وهكذا يتوقف بيل وهو قادم من تورتونه في الساعات الأولى من صباح ٢٧ سبتمبر ١٨٠١ ... في المنطقة الواسعة التي جرت على أرضها معركة مارينغو، ...)
يتحرك السرد مكانياً إلى المنطقة الواسعة
ويتحرك زمانياً إلى صباح ٢٧ سبتمبر ١٨٠١
لكن الحيلة هنا في استخدام زيبالد جملة الصلة (التي جرت على أرضها معركة مارينغو) أي انتقل إلى صفة المنطقة الواسعة، وهذه الصياغة تسمح للراوي أن يتحرك كيفما شاء بمساعدة التركيب النحوي للاسم الموصول وجملة الصلة. وكان يمكن أن يصف تلك المنطقة الواسعة بأي صفة يحرك السرد باتجاهها.
المنطقة الواسعة التي زرعها الجد عباس فاضل بيديه ... ثم يتحرك السرد باتجاه الجد عباس
المنطقة الواسعة التي ماتت فيها الزوجة ...
ورصد هذا الأسلوب في التحريك السردي ينبّه القارئ لاختيارات المؤلف ويساعده على فهم السياق الذي ينبعث منه النص، حيث جملة الصلة انتخاب جملة من عدد كبير من الجمل الممكنة، ويكون السؤال: لماذا اختار هذا الوصف دون غيره؟ خصوصاً إذا كان الموصوف إنساناً أو شخصاً من هوية مغايرة لهوية المؤلف.
يستقر السرد حول أثر معركة مارينغو على بيل حتى يصل إلى نهاية الفقرة : "ولم يتمكن من تحقيق اختراق حقيقي في الأدب إلا مع كتابه عن الحب، الذي ألّفه في ربيع العام ١٨٢٠ كنوع من التلخيص …"
مرة أخرى يستخدم جملة الصلة لكنها هذه المرة في نهاية الفقرة، ويضع هذا التاريخ ١٨٢٠ ليمهد به الحركة القادمة.
يبدأ فقرة جديدة بجملة فعلية -حسب الترجمة العربية- ‘‘ تعرّف بيل الذي كان في تلك السنوات أيضاً كثير التنقل بين فرنسا وإيطاليا، إلى ماتيلد ديمبوفسكي فيسكونتيني ... ‘‘
ينتقل بهذه الحركة السردية الواسعة إلى علاقة بيل بـماتيلد من خلال العبارة البادئة (تعرّف بيل) إذ يمكن أن يتعرف بيل على أي إنسان. ويستقر السرد عند علاقتهما إلى أن يتفارقا ويشعر بيل بالحزن، ويلوم نفسه لأشهر، ولا يستعيد توازنه الروحي إلا عندما يقرر أن يحوّل غرامه الكبير إلى كتاب عن الحب.
ومن هنا يفتتح فقرة جديدة، يدخل بها إلى كتاب بيل "في كتابه عن الحب، يحكي عن رحلة من المفترض أن المؤلف قام بها انطلاقا من بولونيا برفقة سيدة تدعى مدام غيراردي …" انظر لبراعة زيبالد في تحريك السرد وتركيب بعضه على بعض !
يستقر السرد عند بيل وغيراردي، ثم في نهاية المقطع يستخدم السؤال مشككاً بما يرويه "متى قام بيل بهذه الرحلة مع مدام غيراردي، لو كان قد قام بها فعلاً …" وجواباً منه على هذا السؤال التشكيكي ينتقل بحركة سردية زمانية إلى العام ١٨١٣ "وجد بيل نفسه في خريف ١٨١٣ في أجواء رثاء مستمرة."
وتقنية السؤال مهمة لأنها تسمح للراوي بالعودة إلى الحدث أو الموضوع المسرود لكنه من جهة أخرى، تسمح له بمحاكمة أو تأويل أو نقض وإعادة سرده من وجهة نظر مغايره.
يعود السرد إلى داخل الكتاب عند رحلة بولونيا، "منطلق هذه الحكاية هو بولونيا …" ويتتبع بسرد طويل ـ ربما يكون أطول استقرار للسرد في هذا الفصل- رحلة بيل وغيراردي، حتى يصل إلى حركة سردية زمانية دون أن يُحدِث زيبالد قطعاً في الفقرة، وسأقتبس اقتباساً طويلا حتى يتضح لك الأمر" ... لكن مدام غيراردي لم تكن مستعدة للتخلي عن هذا الحبور الطفولي الذي غمر وجدانها في ذلك اليوم، لكي تناقض بيل حول ما وصفته هازئة بالمغزى العميق ... وبذلك وصل إلى موضوع من المفترض أن يظلّ منشغلاً به لسنوات لاحقة. وهكذا جلس نحو العام ١٨٢٦ -وهو على مشارف الأربعين- وحيداً على دكة محاطة بشجرتين جميلتين ... وخط ببطئ الأسماء الأولى لحبيباته…"
انظر كيف تحرك بالسرد من: رحلته مع غيراردي: ثم حوارهما داخل تلك الرحلة: أثر ذلك الحوار على بيل: ثم النقلة الزمانية إلى العام ١٨٢٦ ليتحرك السرد إلى حبيباته السابقات.
يبدأ زيبالد فقرته الأخيرة في هذا الفصل بجملة فعلية كما فعل سابقاً، تبدو في أول قراءة حركة سردية مركبة: زمانية وموضوعية ينتقل بها إلى زمن جديد (١٨٢٩-١٨٤٢) وإلى موضوع جديد (الروايات التي ألّفها بيل) لكنه -زيبالد- لا يقصد الروايات بل سيقصد موضوعاً آخر في ذلك الزمن" ألّف بيل رواياته العظيمة في السنوات ما بين العامين ١٨٢٩ و ١٨٤٢، وكان مبلياً بصورة متكررة بأعراض مرض الزهري، وعانى كثيراً من صعوبات في البلع وأورام تحت الإبط …" ها هي الألعاب التي يحبها زيبالد ويتقنها، بدأ الفقرة محركاً السرد تجاه الروايات ثم ينعطف به إلى حالة بيل الصحية مستخدما الزمن الذي أورده باعتباره زمناً لتأليف الروايات ليجعله زمناً لتتبع الحالة الصحية، إلى أن ينتهي الفصل بنهاية حياة بيل في مساء ٢٢ مارس ١٨٤٢.
ليس القصد أن يقلد الكاتب أساليب زيبالد -إن استطاع- بل قصدت تنبيه القارئ والكاتب إلى هذه الحركات السردية من القطع والانتقال التي تشبه المونتاج في الأفلام السينمائية ولا تشبهه، لأهمية فهم طبيعة هذه المعالجة في قراءة السرد قبل كتابته.
محمد العرادي، قاص من السعودية، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان:" لماذا يظن الجندي غير المجنون أنه كلب؟" يمكن متابعة حسابه على تويتر: @_al3radi