كان معلمي للّغة العربية في الصف الخامس من المدرسة الابتدائية يحب لغة الضاد حبا جما؛ إذا قرأ أجاد تلوين الكلام، دون إبهام ولا التباس، وإذا كتب أفصح عن براعة كبيرة في فن الخط وتجويد الحروف، تماما كمن يرسم لوحة، فيها متعة للعين وللقلب سعادة. كان الرجل، إلى ذلك، حريصا على استعمال الطباشير الملون لتمييز الأسماء أو الأفعال أو الحروف التي تتناسب مع عنوان الدرس الجديد في النحو، مثل الحال والنعت أو المفعول فيه ولأجله، أو الصفة المشبهة وشبه جملة أو ما شاكل ذلك.
لا يعادل هذا الولع سوى اهتمامِه الشديد بعلامات الترقيم؛ يرسمها رسما بينا حين ينقل قطعة ما على السبورة، ويركز عليها تركيزا شديدا أثناء الإملاء لندونها في دفاترنا. يملي كلاما فيقول: فاصلة، ضعوا فاصلة. ثم يواصل فيقول: نقطة، اكتبوا نقطة، نعم نقطة، قلتُ نقطة. وقد يتوقف ليشرح العلة التي تحتم وضع النقطة عِوَض الفاصلة، دؤوب على فعله دون ملل. وإذا تطلب السياق نقطتين أو علامة من علامتي الاستفهام والتعجب، ينبهنا إلى ذلك. وإذا كان الكلام اقتباسا يضيف إلى النقطتين: افتحوا قوسين مزدوجين صغيرين، وحين ينتهي الاقتباس لا ينسى أن يذكرنا بقوله: اغلقوا القوسين. كان يطبق القاعدة التي تقول: "كلُّ مَنقول مِنَ النصُوص... تلزَمُهُ عَلامَة التنصِيص". أحيانا كان يملي علينا وهو يتجول بين الصفوف وينظر بإمعان إلى الدفاتر. فإذا انتهى من إملاء فقرة تامة يقول: نقطة إلى السطر.. إلى السطر.. إلى السطر... يكررها أكثر من مرة. ما زال صوته يرن في أذني، ولعل صداه بلغكم.
في السنة الموالية، حين ارتقيت إلى قسم الملاحظة من التعليم الإعدادي، لاحظت أن أستاذي في مادة التاريخ، بالخصوص، لا يقل عن معلمي المذكور براعة، كأنما تخرجا من مدرسة واحدة؛ يعتني، مثله، بكل ما ذكرته وأكثر، وكان السبب في ولعي بالمادة التي كان يدرسنا إياها. شيء واحد لم يكن يهتم به أثناء الإملاء هو: نقطة إلى السطر. لم أسمعها منه قط في الحصة الأولى. لذا كان الدرس الأول في دفتري من دون فقرات، انضباطا بالطبع لأوامر أستاذي، فهو لم يقل: نقطة إلى السطر، وأنا لم أكن أبدأ سطرا جديدا إلا إذا أنهيت السطر السابق.
كانت دهشتي عظيمة حقا، لكني سرعان ما أهملت الأمر ونسيته، لولا أنه تكرر في الحصة الثانية. حصل لي خلالها كمن يعاني آلاما في رأسه دون أن يعرف العلة. لم يهدأ لي بال ولم أستطع أن أنسى.
في لحظة من اللحظات استرقت النظر إلى دفتر صديقي، فازدادت حيرتي، واشتدت دهشتي حيث لم يتبين لي شيء. ولما عدت إلى دفتري لأدقق النظر، أدركت أني أنا المخطئ. سترت أمري خوفا من الفضيحة، بل ما أخبرت أحدا قط إلى اليوم لأن الخطأ كان جسيما. هل أخبركم دون أن تسخروا مني؟
لقد كان أستاذ التاريخ حين يتطلب الأمر الانتقال إلى فقرة جديدة يقول: إلى الهامش، عوضا عن: نقطة إلى السطر. ولأنني لم أكن أفهم معناها حينئذ، ولأن الأستاذ أستاذ، يعلم ما لا أعلم، كنت أعتبر كلامه جزءا من الملخص، فأكتبها بالحرف، بدل العودة إلى السطر.
أحمد الوارث هو أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة شعيب الدكالي، المغرب له منشورات قصصية في جرائد ومجلات ورقية منها: الثقافة المغربية، مجلة العربي الكويتية ، المجلة العربية، وغيرها