مما يلفت الانتباه في مشهدنا الثقافي تلك النزعة الواضحة التي تستهدف التماس الوشائج بين القصيدة العربية من جهة و بين بعض الفنون الشعرية المنتمية إلى بيئات وثقافات غربية وشرقية والحقيقة أننا قد نستسيغ مثل تلك الومضات النقدية إذا نظرنا إليها من زاوية التأثر والتأثير التي طالما ساهمت في تداول السمات الفنية ومزجها بالعتاد الأدبي المُمَثِّل لثقافات و مجتمعات شَتَّى وأزمنة متفاوتة إلا أنَّ العين حين تقع على مثل تلك الاجتهادات فإن ما يصطاده الخاطر هو بالضبط ما يمسُّ الجدوى التي يمكن أنْ نخلُصَ إليها حين نأخذ تلك الدراسات النقدية مأخَذاً جادّاً من حيث العودة إلى جذور التراث الشعري العربي ولا سيّما أنَّ الشعر العربي قد استغرقَ أحقاباً مديدة ومراحل فنيّة كانت عَصِيّةً على الاحتراق حيث نضج الشعر العربي وتفتَّح على مسارات فنية رحبة على أيادي أجيال متعاقبة من الشعراء العباقرة إلى درجة تحملني على أنْ أزعم أنه ما من حضارة ولا ثقافة اعتنى أبناؤها بالشعر عناية العرب بشعرهم وهي عناية تتجلّى شكلاً ومضموناً ونوشك أنْ نسمع دبيبها على الأبراج العاجية التي يستوي على ذُراها تلك النخب الثقافية المخملية إلا أنهّا في ذات الوقت تسري سريان النار في الهشيم حتى تتألق أحياناً كثيرة في هيئة قصيدة شعبية عرمرمية يحفظها العامة والدهماء حتى إنَّ كثرة الأقطار العربية و اختلاف لهجاتها لا تكاد تضرِبُ حجاباً دون إبداع الشاعر الواعي بكيمياء القصيدة مهما اختلفت مسارات الشِّعر وأشكاله ومستوياته التعبيرية واللغوية .
و لأنني حريص على الاحتفاظ بالرمق في هذا المقال إلى نهاية كلماته فسأترك للقارئ الكريم أبواباً مواربة تفضي بالقارئ إلى صياغة أسئلته الخاصة به دون استدراج يبلغ ريعانه بين الأقواس وفوق الخطوط التي اعتاد كَتَبَةُ المقالات أن يطالبوا برسمها تحت بعض العبارات و سأستمر في حديثي عن سمات يسهل أن ينتبه إليها أيّ باحث في شأن القصيدة العربية منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا فلربما خلصنا إلى موقف رشيد حول جدوى بعض المشاريع الثقافية التي يزعم أربابها أنهم يلتمسون تطوير الشعرية العربية من خلال صياغة القصيدة العربية على غرار ما يلقونه لدى بعض الأمم .
بإلحاح يشير بعض الباحثين إلى ما يلقونه في أشكال شعرية متداولة لدى ثقافات إنسانية بعينها فيتحدثون عن مصطلحات شعرية أعجمية يحلو لبعضهم ترجمتها و تسويقها عربيا تحت مسمى ( الومضة الشعرية ) و ما فيها من روحانية تباشر اليوميات المألوفة في معنوية كثيفة واقتصاد لفظي ويسرف بعضهم في أحاديثه و أطروحاته عن هذه السمات الفنية وكأنهّا فتوحات شعرية غير مسبوقة وكأنَّ القصيدة العربية لم تأخذ بنصيب من هذه السمات على مدى عمرها الذي جاوز خمسة عشر قرناً و الحقيقة أنني لا أستنكر أن يستفيد الشاعر العربي من اطّلاعه على تجارب شعرية متداولة بين الأمم لكنني في الوقت ذاته لا أعتقد أنّ الشعرية العربية كانت أصلاً في معزل عن تلك السمات الفنية حيث إنّ ذائقة الشاعر العربي زاوَلَتْ صقل أدواتها باستمرارٍ قديمٍ جرّاء عوامل أدبية و نقدية يتعذَّر الإحاطة بها في مقال يمكن نشره هنا أو هناك، بَيْدَ أنني في هذا المقال أحاول الإشارة إلى بعض مكامن العلاقة بين القصيدة العربية و تلك السمات التي أظن أنها هي المفضّلة لدى الشاعر العربي القديم قبل أن يتفضّل بعض الدارسين بتقديم أطروحاتهم حول ضرورة شحذ القصيدة العربية على مَحَكٍّ نقدي مقتبس من مشارق الأرض و مغاربها و أنا لا أزعم أن ما سأكتبه لاحقاً هو الصواب لأن الشعر بطبيعته يستعصي حتى على التنظير و القواعد كما أنه لا يمكن أن تنمو تجربة شعرية إذا كان أربابها يقومون عليها ببذور مبتذلة و مصادر آسنة .
أحاول تسجيل بعض الانطباعات الشخصية حول مفاهيم و عناصر ارتبطت بالقصيدة العربية منذ أزمنة مديدة و لعلَّ أوَّلَ ما يلفت انتباهي فيما يتعلق بمحاور هذا المقال هو أن الذائقة العربية القديمة ترى أن القصيدة هي ما استغرقت سبعة أبيات و لا شك أن الغالب على الشاعر العربي هو أن يتجاوز هذا العدد من الأبيات في كثير من قصائده إلا أن قناعة الذائقة بهذا الحد اليسير من حيث الكم يَدُلُّ ولو من طرف خفي على أن الذائقة العربية الفطرية تميل بطبيعتها إلى البوح بالمعنى السمين في تعبير لفظي مختصر لا يتجاوز بضعة أبيات و لا تفوتني هنا الإشارة إلى أن من يتجاذبون أطراف القصيد و نقده من العرب الأوائل كانوا يأخذون على الشاعر أن يعيد استخدام الكلمة المستخدمة في القافية لفظاً و معنى بحيث يكررها في قافيتين في أقل من سبعة أبيات و ربما كان هذا إلحاحاً راسباً في الذهنية النقدية التي ترى أن القصيدة هي ما بلغ سبعة أبيات فأكثر.
جاء في مقطوعة شعرية خماسية الأبيات مرهفة المعاني تُرْوَى عن وجيهة بنت أوس الضبّيِّة :
( وَعاذلةٍ هبّتْ بليلٍ تلومني
عَلى الشوقِ لَم تمح الصبابةَ مِن قَلبي
فما ليَ إِن أحببتُ أرضَ عَشيرتي
وَأَبغضتُ طرفاء القصيبة من ذنبِ
فَلَو أنّ ريحاً بلّغَتْ وحي مرسلٍ
حفيٍّ لناجيتُ الجنوبَ على النقبِ
فَقُلتُ لها أدّي إِلَيهم رِسالتي
وَلا تخلطيها - طالَ سعدُكِ - بالتُّرْبِ
فَإنّي إِذا هبّتْ شمالاً سَألتُها
هَلِ اِزدادَ صدّاح النميرة مِنْ قُربِ )
لاحظوا أنَّ الشاعرة قد استغرقت كل هذه المعاني التي تفيض عذوبة تمزج الحنان بالحنين في مقطوعة قصيرة لم تبلغ سبعة أبيات حتى تنال مسمى ( قصيدة ) وفقاً للميزان العربي العتيق و هذا مثال واضح يثبت أنَّ القريحة الشعرية العربية تأنس بمثل هذه اللفتات الوجدانية المكثفة المحتشدة في مساحة تعبيرية تتَّسع كلما اقتصد الشاعر في ألفاظه .
ثم إننا إذا تأملنا المفاهيم و الاصطلاحات المتعارف عليها لدى العرب الأوائل ممن يعشقون الشعر و يتداولونه سيلفت انتباهنا بلا شك ما اعتاد العرب على تسميته ( بيت القصيد ) و هو البيت الذي يوشك أن يختصر غايات القصيدة و أحسب أن تداول مثل هذا المفهوم كفيل بتشكيل الإيحاء حول ذائقة ذلك العربي الذي و إن طالت عليه القصائد فإن غريزته الفكرية تتجه تلقائياً إلى بيت شعري ( واحد ) يوجز التجربة الحيوية الإنسانية.
إذن فالعربي إنسان ينطوي على ذائقة نقدية شعرية تمكّنه من تصفية ما يسمع وانتقاء الخلاصة الشعرية الخلاَّبة و القبض على البيت الذي يخلِّدها حتى يجري مجرى الأمثال و هذا ملمح آخر يفضي بنا إلى القول إن ذلك الإنسان العربي لم يكن في معزل عن أدواته النقدية التي تمكنه من ترسيخ فضيلة من فضائل الشعر ألا و هي تكثيف المعنى في لفظ مختصر غير مُخِلٍّ و التراث الشعري العربي يزخر بأبيات مفردة شاردة جَرَتْ مجرى الحكم و الأمثال و اختصرت تجارب إنسانية و عاطفية كثيفة.
وبعد البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام و انتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجاً اكتسب ذلك الإنسان العربي بصورة تلقائية سمات ثقافية جديدة ذلك أن الإسلام لم يكن دينا للعرب فحسب و إنما كان رسالة للناس كافة و لا شك أن انتظام أمم أخرى في العقد الاجتماعي المسلم أتاح مساحات شاسعة للتقارب الثقافي بين العرب و سائر الأمم التي اعتنقت بعض شرائحها الاجتماعية ذلك الدين الحنيف و انعكس ذلك على الأدب بصفة عامة و لا سيّما الشعر العربي ناهيك عن الركائز الفكرية التي يمكن أن يرسِّخها البعد الديني في تلك القصيدة العربية التي اكتسبت المزيد على الصعيد الروحاني عندما مازجتها نزعات التّصوّف الشعري. لا أريد الإطالة في هذه النقطة لأن الكلام حولها مبسوط في مختلف المصادر و المراجع الأدبية و أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب ( التصوف في الشعر العربي؛ نشأته وتطوره حتى آخر القرن الثالث الهجري ) للدكتور عبد الحكيم حسّان ناهيك عن مساهمات الأديب الدكتور وفيق سليطين في هذا الميدان الرحب ومنها كتابه ( الشعر والتصوف ) والنماذج بعد ذلك أكثر و أوضح من أن تفتقر إلى إشارة.
هذا موجز أعتقد أنه يوضّح للقارئ أن القصيدة العربية اكتسبت في شكلها و مضمونها ملامح فنية يعود بعضها إلى عهود غابرة و على من يريد تسويغ الإضافات إليها في زماننا هذا أن يأتي بما يستحق أن يلتفت إليه الشعراء العرب و لا عزاء هنا لمن يكثر تحذير الشعراء من الغرق في عباب لغتهم العربية و عروبة أنساقهم الشعرية و الحفاوة البالغة بتلك العناصر الفنية الأصيلة ذلك أنني لا أخشى على الشاعر من اللغة المقعَّرَة ( إنْ وُجِدَتْ ) خشيتي عليه من النظرية المقعَّرَة و هي ظاهرة للعيان في أطروحات بعض الأصدقاء و الشاعر العربي الشجاع لديه من شجاعته ما يكفي حتى للتصالح مع قصيدته الرديئة إذا تأكد أن تلك القصيدة قنطرة يعبر عليها إلى ما هو أجمل و المهم أن تنبذ اليأس و تطرده بعيداً عن عربيتك و عروبتك .
يحسن أن أختم هذا المقال بومضتين شعريتين عربيتين عريقتين أرى فيهما ما يغني عن اجتلاب ما ليس لنا .
يقول المتنبي :
( بِأَبِي مَنْ وَدِدْتُهُ فَافْتَرَقْنا
وَ قَضَى اللهُ بَعْدَ ذاكَ اجْتِماعا
فَافْتَرَقْنا حَوْلاً فَلَمَّا الْتَقَيْنا
كانَ تَسْلِيمُهُ عَلَيَّ وَدَاعا )
ما تقولون في هذه اللقطة الوجدانية المرهفة التي جاءت كما يأتي المخرج السينمائي في زماننا هذا بمشهد يبلغ الذروة في تصوير المودّة حين تسيل المأساة من أدق تفاصيلها في أقل من عشرين كلمة !
و يُرْوَى عن توبة الخفاجي قوله :
( كَأَنَّ القَلْبَ لَيلَةَ قِيلَ يُغْدَى
بِلَيْلَى العامِرِيّةِ أوْ يُرَاحُ
قَطَاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فَبَاتَتْ
تُجَاذِبُهُ وَ قَدْ عَلِقَ الجَنَاحُ )
إنها صورة مقتبسة من البيئة بإتقان مع إعادة توظيفها في سياق وجداني يُلوِّحُ لنا بالومضة الشعرية الأصيلة في أقل من عشرين كلمة فهل يحتاج هؤلاء و أمثالهم لمن يوصيهم بالإبداع خيراً و هم خير من يأتي بالإبداع في هيئة السهل الممتنع و هل يفتقر الشاعر العربي في زماننا هذا إلى زادٍ فكري تصويري شديد الكثافة والإيجاز وهو يستنشق باستمرار مثل هذه النفحات الشعرية اليعربية مع حرص شديد على إعادة استثمارها و توظيفها في سياق عصري .
أما أنا فإعادة النظر في بيت من الشعر العربي الغابر أَحَبُّ إليّ من عبارة مترجمة يزعم ناقلها أنها قصيدة و كأنه لا يعي أن الحصة الكبرى من الحمولة الجمالية للقصيدة بالذات تتآكل على الأسلاك الشائكة التي تنصبها الترجمة لجماليات القصيدة أياًّ كانت لغة تلك القصيدة فلا يمكن لأي إنسان أن يدرك جمال الشعر بالذات إلا إذا قرأ القصيدة بلغتها الأصلية و هذه النقطة تحديداً قد تكون استهلالاً ملائماً لمقال قادم .
فهد محمد أبو حميد كاتب سعودي صدر له كتابان "شخص لأوهام الرواة" و"تشبهين الفرصة" دار تشكيل للنشر والتوزيع