لوحة على جدار
رسم نفسه واقفا مواجها للجدار مرفوع الرأس، ثم والجدار خلفه – من خلف ظهره المنقوش عليه خطوط كرباج الجدار- يفتش عن أخطائه التي كان يخفيها عن الدنيا ونفسه خلف ظهره. ثم وهو راكع أمام الجدار لعله يغفر له، ثم وهو ساجد شكرا لله، ربما لأنه نال مغفرة أو نال عقابا وانتهى الأمر. ثم وهو غافٍ في بطن حوت سليمان لا يُسمع له صوت حتى المناجاة، مضموم الأعضاء كطفل في بطن أمه يخشى مواجهة الحياة، وغافيًا وجهه إلى الأرض، ثم مستيقظا فجأة في قبر.
أمسك فُرشته ونظر إلى الجدار حيث صورته المنعكسة منتصبًا، ساجدًا، راكعًا، غافيًا. لم تكن المساحة أمامه تسمح له بنشر كل هذه الذكريات. احتار، أي الصور أهم وأقربها لقلبه لتحتل الجدار كله؟ وأيها يستحق النسيان والضياع؟ عجز عن الاختيار. غمس يده في ألوانه. تحرك بخطوات كهل مقتربًا من الجدار. طبع بصْمَتُه على حافته وأسرع –بذكرياته- هاربًا.
أغنية طائر
عرض عليه بائع العصافير عصفورًا صغيرًا، كان يردد دائمًا أغنية وحيدة مليئة بالنشاز، تتحدث عن طائر غادر عشه ذات صباح على أن يعود لعشه - كما هي عادته - في نهاية اليوم، لكنه لم يعد. انتظره في العش أيامًا كثيرة عصفور صغير كان ما يزال بيضة حين فارقه ولم يعد. لذلك خرج من البيضة ولم يجد من يردد على مسامعه أغاني العصافير الصغيرة، ليحفظها بدوره ويرددها ككل عصافير الغابة. تعود أن يسمع أصوات الطبيعة ويقلدها، فجعل نفسه رعدًا، وهسيس ريح، وخرير ماء، ونقيق ضفدع عواء ذئب ونقرات مطر على أوراق شجر، حتى ملت الطيور أفعاله وأصواته فطردته حتى آخر حدود الدنيا/الغابة. وهناك عاش وحيدا يردد أغنيته الوحيدة الحزينة عن الطائر الذي خرج حتى ألقته الأيام في شبكة الصياد، فأتى به لبائع العصافير في قفص حديد ليزيد لحنه حزنًا يتشربه السامعون رغم النشاز.
الموت مبكرًا
كان يجلس بجانبي حين دخل مدرس الدين ينعق كالغراب بأن سعدًا مات غرقًا في البحر، كنا أطفالًا فى التاسعة من عمرنا، لم يكن أغلبنا يعرف الموت بعد، لم يقابله أو يواجهه، لكننا كنا نعرف البحر، نراه كل صباح ذاهبين إلى المدرسة وعائدين منها، نائمًا بين ضفتين دون غطاء، هذا البحر الذي حين كبرنا عرفنا أنه ليس بحرًا، بل مجرد نهر يتحكم فيه ويروضه سد عالي. يومها طلب منّا مدرس الدين أن نقرأ لروح سعد الفاتحة لعل الله يغفر له ويدخله جنته، وخرج ليكمل يومه ويعلن خبره على باقي فصول المدرسة وتلاميذها.
سألني الجالس بجانبي: "هل تحفظها"؟
أجبته بهزة رأس. طلب مني أن أكتبها له فى كراسته ليقرأها على روح سعد، لعل الرب يتقبلها منه ويُدخل سعدًا فردوسه.