top of page

القدوم الأول إلى المدينة

عبدالباقي المحمود محمد

     أخذت حقيبتي وودعت أبي وأمي وإخوتي وكلهم ينظرون إلي بحب وحنان، ويحزنهم فراقي، ويعدون إرسالي للدراسة في المدينة نوعا من التضحية؛ أبي الذي أساعده في رعي ثلة الأغنام، والورود إلى الآبار السطحية لجلب المياه لم يسهل عليه فراق ساعده المساعد. 

أمي خائفة من ذهاب ولدها إلى الغربة ولكن لا بأس لأنها تعودت على مثل ذلك.

     أنا المراهق المائل إلى المغامرة وتجربة الجديد، القليل الخبرة، لم يسبق لي أن رأيت مدينة قبل ذلك إلا في التلفاز.عزمت هذه المرة على السفر إلى مدينة نيامي عاصمة جمهورية النيجر للالتحاق بالمرحلة الثانوية التي لا توجد في قرية تناهما التي درست فيها الابتدائية والإعدادية.لم أجد من أسافر معه ممن أعرف. ذهبت إلى السوق الأسبوعي للقرية، دخلت صندوق إحدى شاحنات نقل البضائع أنا ومن معي من المسافرين الذين لا أعرف منهم أحدا.

     كانت الشاحنة كبيرة وواسعة الصندوق، ولكنها مشحونة بالناس والبضائع التجارية والخرفان، كل هؤلاء المختلفين اجتمعوا في صندوق الشاحنة وسارت بهم متجهة إلى دائرة آنسونغو التابعة لمدينة غاو شمال مالي.

     الطريق ليس معبّدا، بل فيه الكثير من الصخور والآكام التي تصطدم أحيانا بالشاحنة حتى يسقط بعضنا على بعض لنتبادل السِّباب والشتائم، أما الخرفان التي كانت معنا فتتطاير شعراتها بفعل الريح واضطراب الشاحنة وتسقط في أعيينا فنحكّها حكّا، وربما داست بأظلافها على أقدامنا فتصيبنا بوخزات مؤلمة وجروح طفيفة.كل ذلك لا يهم، المهم أن نصل إلى محطة الحافلات التي تنطلق فيها من آنسونغو إلى نيامي قبيل الظهر.

    وكأن العقبات تعاونت على تأخيرنا؛ منعرجات ومنعطفات كثيرة في الطريق، إطار عجلة ينفجر فيسرع مساعدو السائق لتبديله، محرك الشاحنة يسخن ونقف مدة منتظرين انخفاض درجة حرارته ثم نزيد الماء في الرادياتير ونواصل السير، بعد كيلومترات قليلة نقطع واديا حديث عهد بالماء نديّ الطين فيبتلع العجلتين الخلفيتين للشاحنة ثم ننزل ونزيح الطين وندفع الشاحنة بأيدينا حتى تجتاز.

    أخيرا وصلنا حين علت أصوات المكبرات بأذان الظهر. نزلت عند محطة حافلة "سونيف" قلت للسكرتيرة:

-" أريد تذكرة السفر إلى نيامي."    

-"سأقطع لك التذكرة والموعد غدا صباحا في تمام السابعة."

-"لكن أريد التي تنطلق الآن."

 -"لقد فاتك الأوان، قبل دقائق غادرتْنا."

لابد إذاً أن أنتظر صباح الغد في هذه المحطة. بعد ساعات قليلة عسعس الليل، أما المطر فكأن له موعد لقاء غرامي مع الليل على رأسي وما يحيط بي من قرب.

وبعد نصف ساعة تقريبا هدأ المطر ثم توقف عن النزول فخلف من بعد خلْف من جيش البعوض بات يمتصّ دمي وأحكّ مواضع لدغاته وصار ليلي كليل امرئ القيس حين قال: 

وَلَيْلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ

عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبْتَلِي
 

إلى قوله:

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِ

بِصُبْحٍ، وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ


وأخيرا طلع الفجر، وانفلق الصبح، فصليت ثم تناول الفطور، وما إن ارتفعت الشمس قليلا حتى صفّرت الحافلة المنتظرة، قادمة من مدينة غاو. نزل بعض الركاب ثم نودينا فدخلنا وتوجهنا تلقاء مدينة نيامي عاصمة النيجر.

     سرنا في الطريق المعبد بسرعة لا بأس بها، شعرت بفرح وانشراح صدر لكوني في هذه المركبة المتطورة التي لم تقع عليها عينيّ قبل ذلك اليوم، لأني جئت من بادية نعتمد فيها للنقل على الخيل والحمير، والمشي والجمال.إنها لنعمة كبيرة ألا نكون مع الخرفان وأبوالها وبعراتها المتناثرة في كل مكان مثل كنا في الشاحنة السابقة. أكثرت من النظر إلى الخارج بالنافذة، الطريق ممتع، الأجواء ماطرة، والأراضي مخضرة. أنا مثل الشاعر الذي قال:

ثلاثةٌ تُذْهِبُ عن وجهِي الحَزَنْ

الماءُ والخُضرةُ والوَجْهُ الحَسَنْ
 

     عمي محمد أحمد الذي سأنزل ضيفا عليه في تلك المدينة كان يزورنا في العطل الصيفية، وأحلب له النوق والنعاج, وأختار له الجمل الهادئ لا الهائج عند التنقلات والرحلات البدوية، وأصب له الشاي، لذا أرجو أن يرحب بي في بيته طيلة دراستي في المرحلة الثانية في نيامي.

    قطعنا حدود دولة مالي ووطئنا أرض النيجر. البوابتان الحدوديتان مشّطتا جميع حقائب المسافرين وباقي أمتعتهم بالتفتيش، بحثا عن أي سلاح كامن، لأنهما في وقت اندلاع ثورة الطوارق 2012م في شمال مالي وقرب حدود النيجر.قبيل الظهر وصلنا إلى بوابة نيامي وسمح لنا بالدخول. 

    بدأنا نسير داخل المدينة ريثما نصل إلى محطة الحافلة التي كنا فيها. مشاهد جديدة لم آلفها من قبل؛ بدأت أتأمل هذا العالم الجديد، وشعرت بشيء من نشوة الاستجابة لشغفي وفضولي في اكتشاف الجديد؛ أسلاك كهربائية متصلة ومربوطة بأعمدة بعضها من الحديد وبعضها من الأسمنت وبعضها من الخشب، مصطفة في حافات الطرق والشوارع.

    بنايات شاهقة بعض جدرانها من الزجاج، سيارات ودراجات نارية كثيرة مزدحمة في الطريق، رجال شرطة واقفون في مفترقات الطرق يصفرون ويشيرون، نساء متجولات منهن متحجبات وأخريات كاسيات عاريات، تارات أتأمل تضاريس أجسامهن بدءاً بسيقانها المكشوفة وانتهاء بأثدائهن المنتصبة كرؤوس الصواريخ المدببة، مرورا بالخصور الدقيقة والأرداف المتموّجة ريثما نتجاوز فيختفين عن نظري الطائش؛ إنها المراهقة، يصعب ترويضها وكبح جماح نزوتها.

    وصلنا إلى المحطة ونزلنا من الحافلة، ليس معي هاتف لكن معي رقم عمي ورقم زوجته لذا اشتريت رصيدا لشخص ما واتصلت من جواله وسألت عن عنوان بيت عمي فذكر لي.

    خرجت من المحطة ووقفت على جانب الطريق مشيرا لسيارات التاكسي بالوقوف.

    وقفت لي إحداها، فيها ثلاثة أشخاص، سألوني:

   -"أين تذهب؟"

    -"مكان كذا"

    -"ستدفع 500 فرنك سيفا"

    -"لا بأس، أوصلوني"

    -"ادخل."

    أحد الذين في التاكسي لا يبشر وجهه بالخير، كان جعد الشعر أفطس الأنف، منخراه مثل جُحريْ ضبّ أو كهفين توأمين في ناحية جبل.

    سرنا قليلا، ثم قال لي السائق: الباب لم يُغلَق افتحه وأعد إغلاقه، بادرت بتنفيذ أمره جاهلا أنه لم يقصد إلا استغفالي بإشغالي لينتشل زميله المتخصص في السرقة ما بجيبي على حين غفلة من مني. وما هي إلا ثوان فإذا بالسائق يقول لي مرة أخرى:

-"انزل واطلب سيارة تاكسي أخرى، نحن سنغير الوجهة، لا تدفع شيئا."

 نزلت وانطلقوا مسرعين. جسَسَت جيبي لأتفقد المال المودع فيه فإذا به كفؤاد أم موسى عليه السلام حين ذهب ولدها في البحر.لم يبق لي إلا 500 فرنك سيفا في الجيب الآخر، وهو مبلغ يسعني أن أستأجر به سيارة تاكسي أخرى إلى البيت إذا لم يسرق في الطريق.

     استأجرت سيارة تاكسي أخرى إلى البيت، أقلب فيها عيني خائفا أترقب، تدور في رأسي هموم وتساؤلات؛ كيف سأعيش في ،هذه المدينة المادية بدون مبلغ من المال أستعين به، لا شك أن عمي سيوفر لي الوجبات التقليدية الثلاثة (الفطور والغداء والعشاء)، لكن بم سأسدّ جوع الاستراحات المدرسية، وكيف سأشتري الملابس والكتب والكراريس الضرورية وغير ذلك، "الصبر حيلة من لا حيلة له" هذا جزء بسيط مما يصيب أبناء الفقراء في مسيرتهم الدراسية.         

     أوصلني السائق إلى المكان المتفق عليه قرب البيت وهو مسجد التقوى بحيّ سونيسي، وأنزلني وقدمت له ما تبقى من زادي والله المستعان.بعد قليل من الوقوف رآني بعض من جاء من البيت لأداء صلاة الظهر في المسجد وصحبني إلى المنزل. وبعد الترحيب وتبادل التحية أخبرتهم بما كان من أمري.

     أخبروني بأن هذه المدينة كثيرة السراق، ولسارقيها حيل كثيرة مختفلة طالما تعرض لها الناس وخسروا أموالهم، وأوصوني بتوخي الحذر وملازمة الانتباه، ثم قرأ لي عمي بيتا من الشعر ضمّد جرحي وأثلج صدري وسلّى عن قلبي، وهو قول الشاعر:

نَفْسِي الَّتِي تَمْلِكُ الْأَشْيَاءَ ذَاهِبَةٌ

فَكَيْفَ أَبْكِي عَلَى شَيْءٍ إِذَا ذَهَبَا

  وأيقنت أن علي التحلي بالصبر والتحمّل لأنني سأمكث أشهرا صعبة لأن والدي محدود القدرات إضافة إلى أنه في صحراء لا شبكة اتصال فيها، ولا ريب أنه سيمكث قرابة سنة دون أن يسمع بكارثتي.

عبدالباقي المحمود محمد هومعلم لغة عربية في معهد دار الحديث بالنيجر له عدة إنتاجات أدبية منها: دراسة تحليلية نقدية بعنوان "المدح في الشعر العربي عند السوقيين"، قصة قصيرة بعنوان "المذياع الفاضح" وديوان شعري.

bottom of page