كان الحر شديدًا حين وصلت وجهتي، فأمضيت مسائي الأول على الشاطئ. كنت سأمضي شهر إجازتي في مكان قريب ولم أشأ أن تصلني أي أخبار من المدينة. ولكنني عدت إلى غرفتي مبكرًا عكر المزاج بعد أن باغتتني إعلانات المفروشات وبعد ما جرى في طريق العودة. وما كانت هذه إلا البداية.
اضطررت للجلوس في الحافلة على مقعد يحاذي الممر. وضعت حقيبتي على ركبتي ورفعت ذراعيّ العاريتين، كوني أرتدي قميصًا بأكمامٍ قصيرة لأتهوى. استسمحني أحد الركاب عذرًا. ولم يكد الرجل ينهي "بعد إذنك سيدي" حتى مسح ذراعي بشيء بارد ظننته لسببٍ ما لعابًا. وما كدت أنهي ردي السريع "تفضل" حتى شعرت بوخزة من حقنة. على الرغم من حجمها، لم ألمحها حتى تلك اللحظة ولم أميز الحروف الكبيرة التي على الحقنة.
صاحت امرأة بدينة من مقعدها " أنا من بعده!"
-"إيه. قد أؤذيك. اهدأ للــــــــــ."
قال الرجل ذو الحقنة. إذا لابد من أنني حين حركت ذراعي فجأة حينها، سحب حقنته الهائلة وسط ابتسامات الركاب المحدقين بي. مضى عني يمسح ذراع البدينة التي راقبته يُوخز حقنته بسرور، وبكبسة زنبرك لم تفرز الحقنة الهائلة سوى جرعة ضئيلة. تمكنت حينها من قراءة الحروف الصفراء على المحقنة: مفروشات الكناري. تحرّجت من السؤال عما يجري وقررت أن أنتظر حتى الغد لعلي أقرأ الخبر في الجرائد.
حدثت نفسي مغادرًا الحافلة بأنه لا يمكن أن تكون هذه جرعة منشطة للقاحٍ ما. أنا متأكد من أنه لا يمكن لأي كان أن يلقح العامة كيفما شاء. أما إن كان للحقنة علاقة بالدعايات، فلابد أن تترك الجرعة أثرًا واضحًا. هوجست قبل أن أنام بأنه لو كان للحقنة أثر، سيكون من الجيد أن تخلف شعورًا بالصحة والعافية. على أي حال، لم أكن أعرف شيئا عن تلك الدعايات. كنت متعبا جدًا وعزمت على تناسي الموضوع.
لم أكد أغفو بعد حتى سمعت ما لم يبد لي أنه تسجيل أو صوت قادم من الخارج، بل تغريد عصفور صغير في داخلي. بدا الأمر غريبًا عجيبًا، كما لو أصبت بمرض جديد استحب مقامه في داخلي فراح يغني. سرعان ما تلاشت هذه الأحاسيس حين سمعت صوتًا واضحًا في رأسي يقول:
-"مرحبًا
مرحبًا...بثّ الكناري...مرحبًا، مرحبًا...
بث خاص... للأشخاص المهيئين لاستقبال البث..."
أخافني الصوت، فقفزت من السرير. ظللت أسمعه في عتمة الغرفة واقفًا قرب السرير حافيًا. بدا مستحيلًا أن يصدر الصوت من رأسي. ألقيت بنفسي في السرير منتظرًا فعاد البث ليعلن عن تقسيط شراء الأثاث من مفروشات الكناري. تغير بعدها البث فجأة معلنًا عن أول برامج البث: موسيقى التانغو.
حائراً عدت إلى السرير، ومن تحت البطانية الثقيلة التي تدثرت بها ما زلت أسمع التانغو في رأسي بوضوح، وكأن البطانية كتمت كل ما عداه. ألقيت البطانية عني وأخذت أجول في الغرفة. أراحتني الحركة بعض الشيء وإن كان بي فضول لسماع البث. حالما أمسكت إطار السرير الحديدي مستعدًا للاستلقاء مرة أخرى، عاد التانغو، ببثٍ أوضح.
وجدت نفسي في الشارع أبحث عن أصوات أخرى تكتم الضجة في رأسي. فكرت في شراء جريدة قد أجد فيها عنوان محطة الإذاعة لأسال عمّا يمكن فعله للتخلص من مفعول الحقنة. مرت بي حافلة فصعدتها وأراحتني رجرجتها على شارع غير مرصوف من التانغو في رأسي.
فاجأني في الحافلة رجل آخر وحقنة أخرى، وأطفال يجلسون على مقاعد متقابلة بانتظار التطعيم. اتجهت نحوه وسألته عمّا يمكنني فعله للتخلص من أثر الجرعة التي تلقيتها منذ ساعة.
رد عليّ مدهوشًا:
-"ألا يعجبك البث؟"
-"على الإطلاق."
-" إن انتظرت قليلا سيبدأ مسلسل."
-"مصيبة."
هزّ رأسه مبتسمًا مواصلًا تطعيم الأطفال.
عاد البث بإعلانات عن الأثاث. ثم عاد إليّ الرجل يخاطبني.
-"سيدي، إن لم يعجبك البث، تقول جرائد اليوم أن عليك أن تُعَجلَ في تناول حبة دواء مفروشات الكناري."
-"ولكن الصيدليات مغلقة الآن وهذا البث يقودني إلى الجنون!"
وفي تلك اللحظة أعلن الصوت: "والآن نبث على حضراتكم قصيدة كتبت خصيصا من أجل مفروشات الكناري بعنوان كرسيّ الحبيب."
اقترب مني رجل الحقنة موشوشًا:
-"هناك طريقة أخرى يمكنني أن أساعدك بها. ولأني أظنك شخصًا محترمًا لن آخذ منك سوى بيسو واحد. إن كشفت أمري، فسأفقد عملي، فالشركة تفضل أن تبيعك الدواء."
استعجلته ليخبرني سره، فمد يده يطالب بالبيسو. حين نقدته إياه أضاف:
- "انقع قدميك في ماء ساخن".
فِلِسبيرتو إيرنانديس (١٩٢٠-١٩٦٤) كاتب من الأوروغواي. ألهمت قصصه القصيرة بعض كتاب البوم اللاتيني "Boom latinoamericano" كخوليو كورتاسار وكارلوس فوينتس.
مريم الدوسري – مخربشة من البحرين مهتمة بالأدب واللسانيات والترجمة وما إلى ذلك.