الحياة نزهة
ضياء أحمد
كلمتان مكتوبتان على شاشة هاتف متصدعة قلبتا حياتي رأسا على عقب.
«إنه سرطان». قرأتُهما ونحن — أنا وابني — جالسان في سيارتي القديمة بالقرب من مستشفى رمادي يقع على إحدى ضواحي مدينة لندن. في تلك الأيام ومع الجائحة الأولى انتشر الخوف من المجهول والمستقبل والموت في كل مكان. الدخول إلى مستشفيات كان ممنوعا إلا للمرضى. لذلك لم أكن بجانب زوجتي آنا عندما أخبرها الطبيب أن جسدها قد أصبح عدو نفسه.
خلال أشهر العلاج المعذبة واصلت آنا عملها كدبلوماسية بامتياز. ليس لدي صبرها ولا صمودها ولا شجاعتها. لا أستحق سرد قصتها. القصة هذه تدور حول طفل صغير.
في تلك الفترة كنتُ عاطلا ومسؤولا عن تربية طفلنا علي. رأيتُ مباشرا كيف واجه أزمة لا يمكنه فهمها بشكل كامل. كانت حياته غريبة حتى قبل تشخيص أمه بالمرض الخبيث. عرف أن بعض الناس مرضى ولايمكنه أن يذهب إلى حضانة أو يلعب مع أصدقائه الصغار. ولكن كان سعيدا جدا لأن يبقى والداه معه في البيت طوال اليوم خلال عمليات الإغلاق.
كنا محظوظين. كان عمره أقل من أربع سنوات وغير لائق للذهاب إلى المدرسة.
استطاعت آنا أن تعمل في البيت. لم نكن قلقين بشأن المال أو رعاية الطفل مقارنة بالكثير من العائلات الأخرى. تأقلم علي مع الحقيقة الانعزالية. قرأ كتبه ولعب بألعابه وساعد أباه في المطبخ. استمتعنا — هو وأنا — بالحدائق المحلية ونحن نطارد البط الإنجليزي ونتجنب الإنجليز.
لقد نسيتُ ما قاله السيد بي جي وودهاوس: «في اللحظة التي يشعر المرء فيها بارتياح، تتسلل القسمة خلفه وهي مسلحة بأنبوب الرصاص».
بعدما وجدت آنا الورم أصبحتُ أكره المصطلحات التي كانت فيما قبل مرتبطة بالآخرين؛ «ماموجرام»، «خزعة»، «موجات فوق الصوتية». تصاعد قلقنا حتى تلك الظهيرة المنحوسة لما أكد الطبيب أسوأ مخاوفنا. يا ليتني أستطيع القول إني واجهتُ الصدمة بصبر أيوب وأخفيتُها عن الطفل! ولكني لست كذابا. لم أكن أستطيع أن أفكر في طفلنا وهو يفقد أمه. لم أكن أعرف إن رأى عيوني الحمراء. ولكنه صار أكثر صمتا كأنه فيلسوف صغير غارق في تفكير عميق.
صرفت تفاصيل عملية العلاج المتعددة والمعقدة انتباهنا عن أفكار الحياة والموت، ولكنها أثارت قلقا جديدا. من سيكون مسؤولًا عن رعاية الطفل خلال زياراتنا إلى المستشفيات؟
عاشت عائلتنا بعيدا عنا والسفر كان مستحيلا بسبب تعليق الرحلات الجوية. توظيف جليس أطفال كان مستحيلا، والاعتماد على مساعدة أصدقائنا كان مستحيلا أيضًا. قلتُ لنفسي: «لعنة الله على هذا الوباء القاسي». كنتُ مشلولا بالخوف مما قد يحدث إن أصاب الفيروس آنا خلال عملية العلاج الطويلة التي تضعف جهاز المناعة. لذلك قررنا بعد مناقشة مؤلمة أن سيرافقنا علي إلى كل المواعيد الطبية.
ذات صباح نحن — علي وأنا — استمتعنا بنزهة في حديقة «ريجنت». أكلنا سندوتشات بيض وجزر صغير وحمص بطحينة. شربنا عصير برتقال وحليبًا قليل الدسم في أكواب بلاستيكية. وفي اللحظة نفسها عبر شارع «ماريليبون» كان جراح يقطع السرطان من جسد أمه.
تحولت وجباتنا اليومية إلى نزهات أخرى على أرضية غرفة النوم عندما كانت آنا تتعافى من عمليتين جراحيتين. في حين كنا ننتظر نتيجة فحص جيني يتنبأ إمكانية عودة السرطان، رددنا — علي وأنا — الأرقام المرغوبة غنائيا كأننا من هؤلاء المتصوفة الذين يتلون أسماء الله الحسنى حتى ينسون أنفسهم. شعرتُ بأنني بطل الفيلم الإيطالي "الحياة جميلة" الذي يتظاهر بالسعادة لكي يحمي ابنه من الكوارث التي تحيط به.
هل نتظاهر هكذا أمام علي بأن كل شيء على ما يُرام ؟ كان ذلك السؤال الأساسي، فقد فسرنا له ظاهرة الجائحة بكلمات بسيطة: الناس مرضى. لن يزوره جده وجدته. روضته مغلقة. حاولنا استخدام نفس الأسلوب فيما يتعلق بمرض آنا.
أدرك علي أن حياته ليست عادية. قلنا له إن ماما مريضة. يجب أن يكون لطيفا معها. يجب أن يعتني بها. إنها تحتاج إلى الراحة. يساعدها الطبيب. استمع إلينا باهتمام شديد وسألنا أسئلة دقيقة:
-" متى ستكون ماما بصحة جيدة؟ أهي بحاجة إلى ضمادة؟ هل يمكنه أن يشاهد «بيبا بغ» على هاتفها؟"
عندما بدأ العلاج الإشعاعي كتب علي العد التنازلي بقلم ملون على ورقة بيضاء. كل يوم عند عودتنا إلى البيت من المستشفى شطب رقمًا واحدًا وجلبنا يوما أقرب إلى النهاية. كل يوم انتظرنا — علي وأنا — خارج المستشفى وأمه تواجه أشعة السم والحياة. أحيانا مشينا إلى حديقة قريبة وشممنا الزهور. أحيانا جلسنا في السيارة واستمعنا إلى الراديو. أحيانا أكلنا اللوز والجوز.
المكسرات وأغاني الستينيات ورائحة الورود الإنجليزية: هذه هي ذكرياتي عن تلك الأسابيع اللانهائية. لن يتذكر علي الكثير مما حدث. أما أمه فهي ليست منعمة بنعمة النسيان.
في يوم علاجها الأخير خبزنا — علي وأنا — كعكة احتفالية. اقترح رسالة للكتابة عليها. «نحن نحبك يا ماما!». ذلك المساء أطفأ طفل صغير ووالداه شموعًا وأكلوا كعكة شوكولاتة وشربوا عصير تفاح فوار.
لا يتوقع الأطباء عودة السرطان. أريد بشدة أن يؤمن ابني بأننا سنحميه من أي بلاء. ولكن درّسته تلك الأيام — إن كان هناك أي درس في المصائب — أن الحياة هشة وثمينة جدًا جدًا.
ضياء أحمد دبلوماسي أمريكي مقيم بسلطنة عُمان.