ما زلت أحلم بطنط عبير، رغم أن السنين التي مرت كفيلة أن تنسيني من أنا وأين كنت. أراها جالسة أمام طاولة دائرية صغيرة بُنية اللون، فوقها طبق فراخ مشوية وطبق بداخله بامية مع طبق آخر به فريك يتصاعد منه الدخان. يحيط ذراع عمو إبراهيم الأيسر بها بدفء ومحبة خالصة. تضع الأكل في فمه ثم تلعق أصابعها وتبتسم.
أعتبر نفسي بمثابة سلة قمامة طنط عبير. لكي تعيش حياة جديدة، كانت تفرغ كل أحلامها فوق رأسي بينما أنا عالقة بين مشاعر وأمنيات لا تخصني.
إبراهيم محمد الجبريتي القادم من قرية بسنتواي في محافظة البحيرة ناحية طلمبات حلق الجمل، بعد أن قُبل للعمل في شركة الإسكندرية لتداول الحاويات -بعدما زن قريب له على أذن صديق له يعرف السائق الذي يقل مدير إدارة الفوارغ كل يوم من بيته في جليم إلى مقر الشركة في الدخيلة- بعقد مؤقت لمدة ستة أشهر.
بعد تثبيته بعام تزوج إبراهيم الجبريتي من بنت عمته عبير السيد محمد، ذلك أن الشركة أهدته شقة بمقدم مدفوع وبالتقسيط المريح على سبع سنوات، مما ساعد على هجرة داخلية صغيرة في دار الجبريتي للإسكندرية. ذبح والد عمو إبراهيم خروفًا احتفالًا بكل ما حققه ابنه وهو دون الثلاثين، ذلك أن معظم من كانوا يهاجرون في تلك الأيام من "طلمبات حلق الجمل" يشتغلون بوابين في فيلات المصيفين الأثرياء أو عمارات الطبقة المتوسطة في الإسكندرية أو ينتهي عمرهم باحثين عن قطعة آثار في تل كوم النخلة.
سكنت طنط عبير في ربيع 1995 هي وعمو إبراهيم في العجمي في منطقة الهانوفيل/40 شارع مسجد الرضوان في شقة في الطابق الرابع تطل على عمارة أخرى يرشح في مدخلها ماسورة المجاري. الشقة تحتوي على أربع غرف وصالة: غرفة تحتوي على سفرة وخزانة مكتظة بالأطباق والفناجين، وغرفة للأطفال القادمين، وغرفة نوم رئيسية تحتوي على سرير ودولاب كبير وتسريحة عليها مشط خشبي وفرشة ومزيل للعرق وعلبة سوداء بلاستيكية بها مكياج رخيص، وغرفة أخرى ستحتوي فيما بعد على كمبيوتر به وصلة نت من سايبر الحرمين لكنها الآن تحتوي على كنبة لونها أحمر منقوش عليها زهور باللون الأخضر تفتح كسرير من أجل القادمين من البلد. الصالة بها مفارش أرضية بطراز عربي، للقادمين من الشركة والجيران. تحكي أمي دائما أننا عندما سكنا في العمارة بعد خمس سنوات من استقرارهم، غضب عمو إبراهيم ورحب بنا ترحيبًا فاترًا. عمر أبي هو نفس عمر عمو إبراهيم وعمر أمي مقارب لطنط عبير زوجته.
عمو إبراهيم يعرف أن رحم أمي مر بثلاث سنوات عجاف ثم حلم أبي بأمي حامل فذهبوا للطبيب، وكنت أنا.
أطلق مسجد الرضوان الذي كان أكبر من أي عزبة شاهدها أجداد طنط عبير في البحيرة نشاطًا دينيًا بعد رجوع إمام المسجد من السجن بسبب خطبة لا أتذكرها. بدأ تحفيظ القرآن وشرح السيرة والحديث وتوزيع كتيبات ملخصة عن التوحيد للسيدات والبنات تحت إشراف أم معاذ زوجة صديق الإمام الذي تعرف عليه في السجن. أم معاذ معها إجازة وتعرف القراءات العشر وصوتها مميز، ولديها ثلاثة عشر عيل. هذا النشاط الديني كان سببًا في انتعاش المنطقة كلها، خصوصًا لعزلة منطقة العجمي عن أي مكان آخر في الإسكندرية حيث إن الطريق الدولي لم يكن قد خلق بعد، لذلك كانت المسافة بين العجمي وأي مكان آخر طويلة ومملة.
سبب المسجد انتعاشًا من نوع خاص لنسوة الشارع. الشارع الذي كان خاليًا من أي شيء إلا شجر التين والهبيسكيس وقهوة "عم علي" وبعض الكثبان الرملية البيضاء هنا وهناك.
اتجه نسوة كثيرات لحفظ كتاب الله العزيز الحكيم، بعضهن ملّ وبعضهن استمر. وأما اللاتي استمررن، فلأنهن وجدن جيرانًا لهن من قراهن التي هاجرن منها. أصبح حفظ القرآن هو الجسر الواصل بين الله وحياتهن القديمة.
انصاعت أمي بعد فترة من الملل والتحقت بالحلقة المكونة من ست نساء لحفظ أول خمس صفحات من سورة البقرة.
أما طنط عبير فلم تلحق بهن إلا بعد أول مرة ضربها عمو إبراهيم ومنع عنها مصروفها الشخصي لأنها عاقر وغبية وشكاكة. حدث ذلك تحديدًا بعد رجوعهم من عند الطبيب، ومقابلتنا في الأسانسير أنا وأبي نحمل تورتة عيد ميلادي السادس. أخبرهم الطبيب أنهم بخير وأنها مسألة وقت. صحيح أن عمو ابراهيم يعاني من الدوالي لكن هذا لا يمنع الحمل ونصحهم بالصبر. كانت هذه الزيارة الأخيرة، هكذا قرروا. بعد مرور عشر سنوات من الجري وراء الأطباء والدَايات والأدعية والأحجبة، لم يحدث أي تكوّر في بطن طنط عبير. مَل عمو إبراهيم وأحبط، فضربها.
هرعت طنط عبير إلى المسجد تستنجد بالله وبكلماته. كوّنت مع أمي صداقة جيدة بحكم الجيرة وزمالة أزواجهن في الشركة. وتعرفت على أم معاذ وطنط هناء وأم أحمد حمدي وياسمين وأم محمود وأم هشام وطنط مروة وأم رحمة، بحكم أنهم أصدقاء أمي. لم يطقها أحد غير أمي وأم معاذ. كان البقية يخافون أن تحسد عيالهم. ومع ذلك كانت كل أسبوع تنزل إلى المسجد بصواني مهلبية فوقها طبقة من الزبيب وجوز الهند. كانت تضع الكوسة كمكون سري فيها. انتظمت في حفظ القرآن ووصلت إلى جزء "قد سمع" وتبرعت بالكثير من أجل الجمعية الخيرية التي تذبح العجول وتوزع ربعها على الفقراء وتأخذ الباقي لها. ذابت في زيارات الأخوات اللاتي أصابتهن مصيبة كمن تزوج أزواجهن عليهن، والتوكيد عليها أن تتحمل أكثر وأن تستمر في تقديم خدماتها علّ الحال ينصلح.
لكن رغم كل هذه النشاطات، ظل هاجس الحمل يلف طنط عبير بالخوف ونوبات الاكتئاب والشعور بالوحدة. وعمو إبراهيم رغم عشرتهم وصلة الدم بدأ في الكلام عليها في البلد والعمل وعلى القهوة. يقول إنها شكاكة وعصبية وإن العيب منها، وإن أمه تقول له إن بطنها ليست نظيفة لتنجب لك ولدا. عندما كثر الكلام حول عقمها نصحها بعض الأخوات أن تمتنع عن ارتداء حمالات الصدر كي يجري الحليب في ثدييها فيسهل بذلك الحمل، و ترتاح من كلام الناس.
لم يعجب الحال أمي وأم معاذ خصوصًا أن طنط عبير تأتي للمسجد وعليها آثار ضرب. اشتكت لهما أكثر من مرة أنها سمعت عمو إبراهيم يتحدث مع امرأة عبر الكمبيوتر ويدلعها بقوله: "بحبك يا بسبوسة" وأنه هجر المضجع.
هذا ما وتّر أم معاذ، لذلك ركنت إلى الحلول البدائية، وطلبت من الأخوات أن يعرضن اقتراحاتهن لحل المسألة. أصبح رجوع عمو إبراهيم للفراش مسألة مهمة ومسؤولية الجميع، وعلى أساسه تبرعت طنط هناء التي تملك سيشوار ماركة باناسونيك، ولديها ربع كيلو لب أسمر* وعلبتا مكياج من التي تفتح على شكل فراشة. غايتها أن تجعل طنط عبير عروسة من جديد في عين عمو إبراهيم.
في اليوم التالي غسلت طنط عبير شعرها ووجها جيدًا، ووضعت مسحوق الشبة تحت إبطيها وارتدت عباءة لونها بيج وطرحة بيضاء. وانطلقت معنا إلى الشارع حيث تسكن طنط هناء في ثالث عمارة في الدور العاشر. فتحت لنا ابنتها الباب، ومع أول خطوة داخل الشقة غاصت أقدامنا داخل سجادة بيضاء من الصوف عليها وردة بارزة وممتدة حتى الغرفة التي ستحدث فيها العملية. وجدنا أم معاذ وطنط هناء وأم هاجر يقزقزون* اللب. فكّت طنط عبير الطرحة ثم شعرها، وشرعت طنط هناء بيد محترفة بتقسيم شعرها إلى أربعة أقسام وتثبيته بمشابك بلاستيكية مستطيلة. غمزت طنط أم هاجر لأمي غمزة لا يفهم معناها إلا الذي حضر محادثتهم القديمة التي قالت فيها أم هاجر إن طنط هناء كانت كوافيرة لكن ربنا تاب عليها.
فردت أول قسم والثاني باحترافية شديدة. تفاجأنا جميعًا من طول شعر طنط عبير الذي أخفته التجاعيد. رغم أن بشرتها بيضاء وأهدابها طويلة ورقيقة ولديها حاجب رفيع وشفاه دقيقة، إلا أن شعرها كان يحمل طابعًا إفريقيًا.
في منتصف المهمة، ألقت طنط هناء السيشوار والفرشة على الأرض، كان قشر اللب يطير في وجوهنا. صرخت قائلة أنها لا تستطيع أن تكمل أكثر من ذلك. تركت طنط عبير بنصف شعر مفرود وجرت إلى المطبخ بحجة صنع الشاي. نهرتها أم معاذ؛ وحاولوا التخفيف عن طنط عبير، لكنها أصرت على الرحيل.
قالت طنط هناء أنها لم تتعمد ذلك، وإنما شعرت بشيء غريب في شعر طنط عبير؛ كأن يدًا ما جذبتها إلى داخل شعرها. واختتمت هذا الدفاع بأنها تشك أن عبير ملبوسة من جن عاشق يبعد زوجها عنها، وبالتالي لم تستطع أن تجملها لأنه يريدها هكذا. وأضافت أن البقع الزرقاء في جسمها ووجهها ليسا من ضرب زوجها وإنما من سكنة الجن داخل جسدها.
ارتأت أم معاذ أن هذا ممكن ومنطقي وسكتن جميعا. أمرتني أمي أن أجمع قشر اللب من على الأرض. كنت ألملمه بفم مفتوح من بقايا الفجعة، أكتم دموعي وأنا أسأل نفسي: كيف لشخص برقة طنط عبير أن يحوي في جوفه جنيًا؟
طنط عبير كانت الوحيدة التي تطيب بخاطري كلما تلعثمت وأنا أسمع سورة أو حديثًا في المسجد. بيتها كان ملجئي كلما ضربتني أمي، تقف في صفي وتقول لأمي إن ضربها لي سيعقدني وإنها لا تقدر نعمة أن يكون لديها بنت مثلي. الأخوات الأخريات كن يرين في ضربي تربية وتقويمًا لسلوكي. هل الجن يجعل الناس ألطف؟
من اللحظة التي أنهت فيها طنط هناء كلامها، عُقدت جلسة في المسجد قوامها رواد المسجد وأي امرأة لها علاقة بطنط عبير، يحكون أشياء لا نعرف إن كانت حقيقية أم لا. يقسمون على المصحف أنهم شعروا أنها غير طبيعية لكنهم آثروا الصمت من أجل كتاب الله. قالوا إن طنط عبير تتصل بهم في السابعة صباحًا بلا سبب لتقول لهم صباح الخير. قالوا إنها تطعم قطط وكلاب الشارع، وأنهم يسمعون صوت بكائها كل فجر وهي تردد: "يا لطيف يا لطيف." إحدى الأخوات أسكتتهم بإشارة من إصبعها وأفاضت أنها على دراية بتلك الأمور لأنها كانت تقرأ كتب وروايات في صغرها. قالت إن الجن قادم من الجنون، هي جنت في أول الأمر ثم لبسها الجن لأن الباب كان مفتوحًا أمامه وأن كل امرأة لا تنجب معرضة لذلك. قالت إن الجنون وسرطان الثدي مرتبطان بالرضاعة، وإن أي امرأة تضع الكوسة في المهلبية فهي بالتأكيد مجنونة. همستُ لأمي بأن هذه المرأة هي من قالت لطنط عبير أن لا ترتدي حمالات صدر وهي سبب ترهل صدرها، لكن أمي شدت شعري من الخلف لأصمت.
بعد تلك الجلسة أصدروا قرارًا بحظر التعامل معها وأنه من الحلال ضربها، ليس هي تحديدًا وإنما الساكن داخلها.
لم يعجب أم معاذ الحال، وهمست لأمي أنها تعرف شيخًا موثوقًا فيه يأتي من أسوان إلى شارع الحنفية كل شهر ليخرج الجن ويشفي المعلول، وكلما يتفل في الماء المالح يتحول لعذب. صدقت أمي كل هذا إلا قصة التفل في الماء.
في اليوم التالي أقنعت أمي طنط عبير أن تذهب إلى الشيخ ويقرأ عليها القرآن. قالت لها إن الشيخ موثوق به، فهو يخرج الجن ويشفي المعلول ويستطيع أن يجعل في بطنك ولدًا بمجرد أن يتفل.
كانت طنط عبير مستسلمة لأي شيء، خصوصًا بعد أن سمعت عمو إبراهيم يؤكد على "بسبوسة" أن تنتظره في مقهى "ديليس"** يوم الجمعة تمام الساعة السادسة. ومرة أخرى سمعته يقول لها أنه اضطر للزواج منها لأنها بنت عمته وهو كفيل بها حتى وإن كانت مجنونة.
وصلت أمي وأم معاذ وطنط عبير شارع الحنفية في تمام التاسعة صباحًا. سألوا عن الشيخ في مسجد الصفا فرد عليهم أحد الشحاذين المتمسحين بعتبات المسجد أنه ترك المكان هنا، وقرر أن يشتغل من شاطئ الفردوس في خيمته مع ابنته. وصلوا وانتظروا عدة ساعات. فحصها، وأكد أنها ممسوسة. أعطاها برطمانًا به ماء تشربه عند الصحو لمدة عشرة أيام وتقرأ سورة الزلزلة قبل النوم. ثم تعود إليه بعد العشرة أيام، وأنه إن شاء الله خير. عادت أمي من الرحلة تتقيأ. تصورت أن هذا الماء هو تفل الشيخ.
حينما عادت طنط عبير إلى الشيخ بعد العشرة أيام، كانت قد زادت البقع الزرقاء على جسمها رغم أن عمو إبراهيم كف عن ضربها أو حتى النظر إليها. سألها الشيخ إن كان عزم عليها أحد بالطعام أو الشراب خلال العشرة أيام الماضية؟ فأجابت بنعم. فنادى على ابنته لتنظر في حالة طنط عبير. كان اسمها سناء. شخصت طنط عبير من نظرة واحدة. أخبرتها أنها ليست ممسوسة إنما مسحورة، والسحر الذي أصابها كان مشروبًا أو مدسوسًا في الطعام وهو الآن قابع في بطنها وربما رحمها، وهو ما يفشل أي محاولة لتكوين جنين. كتبت لها سناء روشتة علاج على أن تراها بعد عشرة أيام إن لم يفلح العلاج.
عندما عادت طنط عبير من عند الشيخ وابنته سناء، ضغطت على رقم ثلاثة في لوحة مفاتيح الأسانسير. وقفت أمام الشقة الثانية ودقت على الباب. فتحتُ لها فدخلت دون استئذان ووضعت الروشتة على السفرة القريبة من الباب. بكت في حضن أمي وهي تقص عليها ما حدث. فضولي جعلني اقرأ الروشتة، كان بها رسومات وآيات قرآنية، لم أفهم سوى أنه يجب على طنط عبير أن تأتي ببيضة لم يمر على فقسها ثلاثة أيام، ثم ترسم على البيضة مثلث بداخله ورقة شجر صغيرة حولها دوائر أصغر. وتضع البيضة تحت السرير لمدة عشرة أيام. وفي اليوم الحادي عشرة يتم تكسير البيضة داخل طبق صيني أبيض، إذا خرج منها دم، فقد تم فك السحر. وإذا لم يحدث فستفعل الشيخة سناء ذلك بنفسها.
قبل أن تصعد طنط عبير لشقتها قالت أنها ستبحث عن بيضة جديدة. ابتسمت أمي وأخبرتها أنها تشعر أن هذه الأزمة قاربت على الانتهاء.
كنا في الشتاء وامتحانات الإعدادية على الأبواب وعمو إبراهيم كان قد حبس طنط عبير في البيت منذ سنين ولا يسمح لها بالخروج. لا تتواصل مع أحد إلا مع أم باسم لأن شرفاتهما متلاصقة، ومن خلالها ترسل السلامات والعتابات أو ترسل باسم ليشتري لها شيكولاتة وتقايضه بطبق مهلبية.
في ليلة امتحان الدراسات الاجتماعية سمعنا خبطة قوية قادمة من الطابق العلوي فجرينا على السلم لنفهم. وجدنا طنط عبير على البلاط تبكي وتضرب الباب بقدمها وهي مرتدية جلابية تكشف عن كتفيها. تصرخ ويصرخ عمو إبراهيم هو وأمه ويسبونها من الطرف الآخر. العمارة كلها عارضت ما حدث، وأمه -التي هي عمتها- قالت:
"إننا أحرار ولا نريدك وابني سيتزوج غيرك بعد أيام يا مجنونة."
سمحوا لها بعد ساعة من المفاوضات مع الجيران أن تأخذ حاجياتها وتسافر لأهلها. طلقها عمو إبراهيم وهي تغلق باب الأسانسير.
بعد شهرين من الحادثة، جاءت إلى المسجد تستسمح أمي أن تتوسط لها عند إبراهيم ليردها. أمي رفضت.
"بعد كل هذه المرمطة وقلة القيمة يا عبير؟"
قالت إنها تفتقده رغم كل شيء ومستعدة أن تسامحه. لكن أن تنام وحيدة كل يوم بدون نَفَسِه في الشقة هكذا ستفقد عقلها.
لم ترد أمي أن تخبرها بزواجه من فتاة صغيرة تدعى بوسي.
ثم انقطعت أخبارها عنا لمدة سنتين حتى نزلت أم باسم مرة لتشرب الشاي مع أمي، وأخبرتها أن عبير تزوجت من رجل ستيني لديه خمسة عيال وتعيش في منطقة أبو تلات وأنها مرتاحة وسعيدة، ولا تريد أن تتواصل مع أحد لأنها لا تريد أن تتذكر الماضي، وأنها حامل.
كان عمو إبراهيم في نفس اللحظة التي تنقل فيها أم باسم الخبر مع طنط بوسي عند طبيب نساء وتوليد يقع مركزه الطبي في منطقة ال21. درس الطبيب في جامعة فريجيه في بروكسيل كيف يجعل في بطن الأنثى ولدًا عن طريق حُقنة، يسمون تلك العملية الحقن المجهري. كانوا منتظرين دورهم فوق أريكة جلدية زرقاء غير مريحة. اصطادتهم عاملة النظافة في تلك الوضعية المؤثرة كي تأخذ حسنة***. حكت بدون مقدمات عن امرأة عاشت فوق العشرين سنة تنتظر أن تتكور بطنها، واليوم هي في الشهر السابع، حامل في ولد بفضل الدكتور وبدون حقن. ومثل الأفلام المصرية تم قطع سرد عاملة النظافة بخروج طنط عبير من غرفة الكشف، تحمل ابن زوجها على كتفها وتضع يدها فوق ابنها القادم.
بعض الذين مرروا الحكاية إلينا حكوا أنها قالت: "يا لطيف" والبعض الآخر قال أنها ضحكت، وهناك من أقسم أنها أخرجت لسانها وحركته يمينًا ويسارًا في مواجهتهم بينما قبضة يدها اليمنى فوق باطن كفها الأيسر تتحرك كمطحنة.
لكن الأكيد أن عمو إبراهيم لم يدخل للطبيب ذلك اليوم ودخن علبتي سجائر وخمس أحجار معسل وضرب طنط بوسي، ثم طلقها لأنها لا تثق به وتعصب عليه رغم أن العيب منها ومن بطنها.
هرعت طنط بوسي إلى المسجد تستنجد بالله وبكلماته.. لم يطِقها أحد غير طنط هناء.
لا أعرف لماذا بعد كل هذا تزورني طنط عبير في أحلامي؟ أحيانًا أراني أقف أمام الطاولة التي تأكل عليها مع عمو إبراهيم وأصرخ فيها. أحيانًا أنظر إليهما وأبتسم. في مرة قلت لها: "ما الذي تريدينه يا عبير؟" لكنها أكملت إطعام عمو إبراهيم من البامية، واستمر تصاعد الدخان من طبق الفريك، وهي تلعق أصابعها وتبتسم.
* من العادات المصرية أنه كلما تجمعت النساء شربوا الشاي ومعه لب (فصفص) كبديل للمكسرات؛ لأن سعره أرخص.
اللب الأسمر هو الأكثر شعبية، ويأتي من محافظات أخرى للاسكندرية؛ مثل محافظة مطروح.
** ديليس هو مقهى وحلواني مشهور بالاسكندرية، افتتح من قبل يونانيين منذ عام 1922، وهو موجود حتى الآن ويذهب إليه العشاق الكلاسيكيون.
*** الحسنة هي البقشيش.
مي المغربي صحافية وكاتبة من مصر. من نصوصها، مقال "آخر لاعبة شارع" على منصة مدى.