فجر إيبيرية
محمود ماهر
رواية، عصير الكتب للنشر والتوزيع،
الطبعة الأولى ٢٠٢١
٣٢٧ صفحة
إن الرواية التاريخية عمل إبداعي تخيلي يعتمد على الماضي في سرده، ويجعل من التاريخ مادة له. تأتي الرواية التاريخية كحل لسد فجوات التاريخ بخيالات الروائي، وإضافة الخرافات على الحقائق، ويبذل الروائي جهدًا لا يستهان به في سبيل دراسة الظروف والثقافات والشخصيات التاريخية بحذق بالغ. تمتاز الروايات التاريخية بتصوير الحياة الاجتماعية للعصور الماضية في صورة حية، وسهولة قراءتها واستيعاب ما ترمي إليه، فضلًا عن المتعة التي يشعر بها القارئ أثناء القراءة. وهذا بالضبط ما حدث في رواية فجر إيبيرية.
تبدأ الرواية عندما دق جرس الإنذار في إحدى طائرات الخطوط الجوية الفلسطينية المتجهة إلى مستعمرة جبل طارق بن زياد، حيث كان الجرس ينوه بربط أحزمة الأمان والاستعداد للإقلاع. تلاه صوت الطيار الذي صدح في الطائرة مُرحبا بالركاب المسافرين، معلنًا عن مسار رحلتهم التي ستقلع من القدس باتجاه مطار القاهرة، ثم إلى مطار القيروان، ومنه إلى جبل طارق.
القدس، ثم القاهرة، ثم القيروان وأخيرا جبل طارق، قد تبدو رحلة اعتيادية لدى الأغلب، ليس فيها ما يسترعي الانتباه والعجب. لكنها لن تكون كذلك بالنسبة لأولئك الذين لم ينشغلوا بحياتهم عن قراءة تاريخهم، فهم يدركون جيدًا ما الذي تعنيه رحلة بالطائرة من القدس إلى الأندلس، رحلة يقطعونها فوق أراضي الشمال الإفريقي في ساعات معدودة، بينما استغرقت رحلة الدولة الأموية حتى تصل بين الشام والأندلس أكثر من سبعين عامًا.
فجر إيبيرية هي رواية تسافر بك بسردها الأخاذ عبر الزمن إلى عصر الجاهلية الأمازيغية، لتروي لك في بداية الأمر قصة السبعين عامًا التي أُرسلوا فيها أجدادنا المسلمون الفاتحون إلى شمال إفريقيا، لا لقتل الناس، ولكن لمنحهم العلم والطمأنينة التي تمتع بها الشرق والقضاء على الاستبداد الروماني. تحكي عن محاولاتهم التي استمرت سبعين عاما حتى تملك الإسلام قلوب أهل هذه البلاد وتسرب إلى أرواحهم ، وتحولوا من أعداء له إلى مخلصين يسعون إلى رفع رايته.
تنقلك الرواية بحبكتها المرنة إلى غرب مدينة القيروان حيث قبيلة «نفزة» البربرية ومنازلها العتيقة البالية، وتسير بك في طرقاتها المكتظة بالأطفال الذين يلهون مرتدين الأزياء الأمازيغية الآسرة بألوانها، ورجال القبيلة أصحاب الأبدان القوية، لتصل بك إلى بيت "زياد بن عبد الله" راعي الأغنام الذي مات مقتولًا تاركًا خلفه طفلًا يتيمًا يدعى طارق. تقص عليك من يكون هذا الصبي الذي فقد في طفولته كل معاني الحنان والأمان من بعد موت أمه أولا، ثم مقتل أبيه، وسنينه الثقيلة المريرة التي مرت عليه حتى بلغ مبلغ الرجال وبات فارسًا لا يشق له غبار.
تجيب فجر إيبيرية على الكثير من تساؤلاتك التاريخية التي تدور حول «طارق بن زیاد» کيف استطاع أن يعيش يتيمًا؟ ما هي تفاصيل حياته قبل أن يدخل في الإسلام؟ كيف اعتنق هذا الدين؟ كيف كانت وفاته؟ كيف وصل إلى قيادة الجيوش الإسلامية؟ والأهم من ذلك: كيف فتح طارق بن زياد الأندلس؟ وهو السؤال الجوهري الذي تدور حوله جميع أحداث الرواية.
يحكي لنا الراوي تفاصيل قصة فتح الأندلس بأسلوبه السردي البديع الذي يعرف كيف يتحكم بخيالك ويجعلك تخترق حدود الزمان والمكان لتعود إلى ذلك الوقت الذي كانت فيه الدولة الأموية في عز قوتها وأوج شدتها، وجيوشها تقتحم أرجاء العالم، والإفرنج والقوط وغيرهم، يغلب عليهم الهوان ويأكلهم الجهل والانحلال وتنهش عظامهم الخلافات والتفرقة، عاجزين عن لم شملهم وجمع شتاتهم وتوحد قواهم أمام صلابة الدولة الأموية.
أثناء قراءتك لهذه الرواية، ستشعر وكأنك تعتلي صهوة جوادك وتعدو به مع الأمويين تحت لواء القائد طارق بن زياد، أو كأنك كنت في صحبة موسى بن نصير عندما عزم على فتح أوروبا كلها ووصل الشرق بالغرب وجعل بحر الروم بحيرة أموية خالصة، أو كأنك رافقت طريف بن مالك عندما ذهب إلى الأندلس متسللًا بغية استكشافها قبل الشروع في عملية فتحها.
ستكون حاضرًا مع الكونت يوليان عندما سأل طارق بن زياد : " قل لي لماذا أسلمت؟"، وصاغ الروائي الإجابة على لسان طارق فقال : "اخترت أن أولد من جديد في كنف عالم يولد من جديد على يد هذا الدين العظيم والذي جاء رسالة للعالمين."
ستكون شاهدا في خيالك على صعود دولة وتقهقر أخرى على الأرض الفاتنة التي ندعوها بالأندلس، سترى من خلال سطور هذه الرواية آخر أيام القوط في تلك الأرض، وبداية سيادة المسلمين عليها، والتي ستدوم ثمانية قرون تكتظ بالأمجاد والتقدم في جميع النواحي العلمية والأدبية.
ونختم هذه المعاينة باقتباس من الرواية :
"مرت الأيام والسنون، وبلغ طارق مبلغ الرجال وازداد إعجاب الكثير من أهل القبيلة به، ولكن رغم حبهم له فقد كان كثيرًا ما يفضل الوحدة على الاختلاط بهم، وكان بحر الروم صديقه وخليله الدائم وأنيس وحدته هو بحر الروم خاصة وقت الغروب.
"والبحر ملجأ الحزين، يقاسمه شجونه، ويسلو الهموم، ويبعث في النفس راحة وسكينة، فتهيم به أمواجه الساحرة إلى عام آخر."
د. محمود ماهر، روائي له عدة روايات تاريخية، وباحث في تاريخ الأندلس.
عمار الظاهري، يكتب مراجعات عن الكتب، يمكن متابعته عبر حسابه في تويتر: u22tr@