بدل فاقد
صاحبه إحساسًا بالحرية بعدما غادر مطعم فاره وعصري ليمشي فوق أرصفة المدينة. تشبع بالحزن الذي التهمه مع وجبة الغداء، إلى أن أطفأ ما خالط قلبه من أحاسيس أخرى. يحدق في الأرض منحني الرأس، ومنصرف التفكير في حال البشر الذين التقاهم قبل هنيهة، وانشغل في مسوغات ما يضحكهم بهستيرية وما يجعلهم بلهاء إلى هذا الحد. كيف يستوعب أولئك الشبان بعضهم البعض على الطاولة المجاورة، وهم ستة أشخاص. لا شك أنهم يتحادثون بجموح وشَبق عن الفتيات اللواتي ينتظرن طعامهن. تلتهب مع هذه الأفكار أحزانه، ويضمر قلبه رويدًا رويدًا. يعتصر من الداخل ويئن.
يهش من عقله هذه الأفكار. عليه أن يعتني بنفسه أكثر، خاصة فيما تراه أحداقه وما يلج إلى أسماعه، لسلامة ذاته وتفاديًا لنوبات حزنه المزمنة.
"لقد توصلت إلى علاج لهذه المشكلة، أما الأخرى فما علاجها؟"
تمتم وأخاف بهذه الكلمات المتحشرجة طفلًا يسير بقربه. لعن ذاته لترويع هذا الكائن البريء، وحاول تلطيف ندمه بتجديد أمنياته:
"آه.. لو أنني مسؤولٌ عن إمساك الأطفال قبل الصعود إلى التل".
مأساته معقدة وتتطلب يومًا بطوله لاستيعاب قليلاً منها، وحتى هو ما زال يبحث عن خيط يوصله إلى أساس بلائه، سَأل:
"أيمكن أن يبلغ الإنسان عقده الخامس ولم يجد بَدل فاقد لهويته؟"
وَقعت أفكاره كإناء هوى من المنضدة على الأرض، لأن شابين مسرعين يرتديان حذاء تزلج، أربكاه وأوشكا ملامسته، وهكذا انهال عليهما بشتائم قبيحة قذعها بداخله، وحين انطفأت فورة غضبه، رغب بالإياب إلى ما كان يفكر فيه، إلا أنه واجه صعوبة في استحضار ما كان يشغله.
أشرق محياه بابتسامة تزامنًا مع فكرة قوية الانبعاث، "تشييد علاقات اجتماعية جديدة!" وسرعان ما أخفض زوايا فمه حالما استذكر عشرات الأشخاص الذين تخلص منهم؛ لأنهم تافهون وثرثارون ولا يكترثون له ولا يصغون إليه... وفاجأه في وسط تفكيره زوجان يتهامسان ويضحكان وأياديهما متلاصقة. رفع بصره إلى السماء وأرسل شكره للقدير على النعمة الوفيرة التي ينعم بها، بأنه ليس مثلهم، وغير مؤهل ليكون أحمق يشبههم. مشكلته مع هؤلاء في مدّهما أواصر الثقة لإنسان سيهجرهم يومًا ما. وعلى غرّة هبت عليه رياح من ميمنته وميسرته، واستغرق وقتًا ليفهم أن فتيانًا هرعوا بدراجاتهم صافعين معاناته دون رحمة وشفقة.
حاول القبض على زمام نفسه، وأكمل خطواته. وبينما يفتش بصعوبة عن آخر ما كان يتأمله، لمح شخصًا جعله يضحك مستذكرًا أيامه الذهبية على حد وصفه والتي ينعتها أيضًا بأيام البؤس والألم. ظل يمشي متمعنًا في بطل حياته قبل عشرين عامًا التي غادرها بقرارة نفسه. عاين الأرض وتابع حواره مع ذاته "أكنت قاسيًا عليه إلى هذه الدرجة؟ لم أطلب منه فوق طاقته، ليس إلا.. حاجة تافهة.. تصرف صغير.. صغير جدًا، شحذته بإلحاح على مدى سنوات، وأدى رفضه إلى تفجير براكين غضبي غير مرة، ما المشكلة في أن يبقى معي، ويهب لي وقته، يحترم وحدانيتي ويكتفي بي في حياته، فما له وللناس؟". ومع ارتفاع الأبواق، أفاق متأخرًا بعد أن أفرط في مشيه وتجاوز الرصيف واندفعت المركبات بسرعة قصوى.
ماجد الحطاب كاتب قصة ومحرر صحفي سعودي، نُشرت بعض قصصه في جريدة الرياض، وعبر مبادرة الأدب في كل مكان مسار (ق ق) لهيئة الأدب والنشر والترجمة.
ماجد الحطاب