لا تخف
(١)
بزغ اليوم الرابع من غيابها. طويتُ الرسالة ووضعتُها في جيبي قبل أن أغادر الشقة. ركبتُ الترام الى محطة القطار المركزية ومشيتُ من هناك على «رو مون بلان» عبر النهر إلى مقبرة «سيميتيير دي روا».
كان المسار زلقا بالطين بسبب الأمطار اللعينة التي تصيب مدينة جنيف خلال خريفها الرمادي. سرتُ بجانب قبور السياسيين المنسيين والكالفينيين الأتقياء والأزواج المحبين وزوجاتهم المخلصات حتى وصلتُ إلى شاهد قبر مألوف. أضفتُ حصاة إلى كومة من الحصى الثلاث فوقه. ركعتُ على الأرض ولمستُ النقش الغامض تحت اسم صاحب القبر: خورخي لويس بورخيس.
And ne forhtedon na
لم تعن لي العبارة شيئًا ولكنني علمت جيدا كيف سيطر هذا الأديب الأرجنتيني البديع على مخيلتي منذ أيام الطفولة. وكنت ما أزال مسحورا بقصصه العجيبة من المرايا المرعبة والمتاهات المجازية والحالم المتحير الذي يكتشف أنه نفسه حلم شخص آخر. توفي هنا على ضفة بحيرة جنيف ونهر الرون، بعيد عن بوينس آيرس. في قارة أخرى مشى على ضفة نهر آخر، نهر «تشارلز» بين مدينتي بوسطن وكامبريدج حيث عشنا أيضا، أنا وهي.
قبل سنتين بعدما انتقلنا إلى جنيف، أردتُ أن اجلبها إلى هنا، لزيارة بورخيس. هي لم تقرأ كتاباته. استمعتْ بلا تعليق إلى هذري المتكرر عن أفكاره. كانت مهتمة باللاجئين ومعاناتهم وليس بالقصص الخيالية.
- "هل قرأتَ قصائده؟" سألتْني خلال لقائنا الأول ونحن نسير في ميدان «هارفارد» باحثين عن مطعم مكسيكي.
لم أكن أعرف أنه كان أيضا شاعرا.
(٢)
جنيف كانت جميلة ومملة ومليئة بمسؤولين أمميين يشتكون من حياتهم المملة. كانت أصغر من ضاحية بوسطن الصغيرة التي عشنا فيها بعد زواجنا. جلبتنا وظيفتها في الأمم المتحدة إلى سويسرا حيث اعتاد الناس الكلام عن ساعاتهم الدقيقة وتقبيل أصدقائهم ثلاث مرات كلما التقوا وأكل بطاطسهم المقلية بالمايونيز. وأيضا، حيث انتهى زواجنا.
(٣)
تملكتني رغبة مألوفة في الفناء وأنا أغادر المقبرة متوجها إلى الشقة. لم يبدُ أي شيء في العالم حقيقيا بدونها. ضحكتُ وأدهشني صوت الضحكة الصاخب. هل كانت تشعر بنفس الإحساس عندما وجدتُها في منتصف الليل على سطح شقتنا وهي تحدق بهدوء إلى العَلم السويسري عشرة طوابق أسفلها؟ "نداء الغياب": هكذا فسر لي الطبيب النفسي ذلك المفهوم الفرنسي الغريب الذي لا يعني الخوف من المرتفعات، بل الرغبة في القفز منها. ظن الطبيب أنني أتحمل شيئا من المسؤولية عن أمنيتها بالموت.
لكن لماذا أنا؟ في نهاية المطاف قد رحلتْ، سيرا على الأقدام، لا بالقفز. أو طارت، لم اُطيرها. أليس كذلك؟ لقد نسيتُ. شعرتُ بأنني أصبحتُ راويا غير موثوق لقصة حياتي. تذكرتُ ما كتبه بورخيس عن خيانة ذاكرة الإنسان فضحكتُ مرة أخرى. هل ضحكتُ على العالم أو نفسي؟ قد أزعجتْها في بعض الأحيان وأعجبتْها في بعض الأحيان الأخرى كلماتي عن العالم والنفس. ولكن كيف يمكن لكلمات مجردة أن تقدح في امرأة الرغبة في القفز من على شاهق؟ هل الرفوف المليئة بكتب بورخيس هي التي جعلتها تقفز، تقفز إلى حضن الفرنسي؟
(٤)
جرحني خيارها أكثر من خيانتها. ربما، في المستقبل البعيد جدا، كنت سأتفهم كونه بديلا لي إن كان يشارك أيًّا من صفاتي. ولكن بدا أنها اختارت نقيضي في كل ملامحه، كأنه انعكاسي في إحدى المرايا البورخيسية المظلمة.
كان جنديا، لسانه ينقط عسلا. أما أنا فكنت فيزيائيا عند المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، أبحث عن المعنى في العالم دون الذري. ركض ماراثونات وركب دراجة نارية سريعة وأغوى زوجات الآخرين، فيما كنتُ مهتما بالكتب والقيلولة والنبيذ الأحمر. ذكرني لون بشرته بلحم الخنزير المطبوخ. كنتُ أسمر الوجه في مجتمع أبيض.
ماذا سيحدث إن التقينا، أنا والفرنسي؟ حسب فيزياء الجسيمات، يؤدي لقاء المادة والمادة المضادة إلى فناء كليهما. ولكن الزواج بين جسيم «الكوارك» ونقيضه يسمى ب«الميزون» الذي يبدو جسيما واحدا ولكنه في الحقيقة مجرد اندماج غير مستقر بين نقيضين، مثل زواجي.
ذات مرة كنا نتحاور بشأن الفروق بيننا وأنا أتكلم بلا مبالاة عن العقل والجسد، والذكر والأنثى، والمنطق والمشاعر. لم تبتسم قط. قالت لي ساخرة: "برافو عليك يا سيد سقراط. إنك فعلا أفضل من الناس العاديين ومشاعرهم غير الضرورية."
(٥)
عند البحيرة رأيتُ نافورة جنيف، وهي من أكبر النوافير في العالم. يقال إن أعلى نافورة تقع أمام شواطئ طفولتي.رأيناها بعد عقد قراننا في مدينة جدة.
توقفتْ أمامي بعض السائحات الخليجيات المنقبات وهن يحدقن بدهشة إلى مشهد المياه المتحركة بسرعة مائتي كيلومتر في الساعة. شتمتُهن بلا سبب ولكن الشتيمة كانت مجرد ترقيم لأفكاري. اصطدم بي محرمهن. لم يعتذر، لم ينظر إليّ حتى، كأنني غير مرئي.
"هل وجودي مجرد وهم إن كانت لا تفكر فيّ ولا تحلم بي؟" سألتُ نفسي. تذكرتُ بورخيس وبطله الذي يكتشف أنه مجرد حلم وأنا أفرك معصمي الأيسر. كانت الخدوش حمراء زاهية.
(٦)
عند شقتنا التي لم تعد دارنا قرأتُ الرسالة آخر مرة. كُتبت بخط يدها الأنيق على ورقة مسطرة بيضاء. "يخيفني غضبك." "لقد جرحتَني." "أحبك." قرأتُ كلمات الغضب والجرح والحب ولكنها لم تعنِ شيئا. وضعتُ الرسالة في سلة المهملات المعدنية وأحرقتُها بعود ثقاب واحد. حدقتُ في ألسنة اللهب للحظة ثم أنزلتُ يدي اليمنى فيها. لكنها لم تلسعني بل لاطفتني وربتتْ عليّ وطوقتني من دون كراهية أو ود. وبشيء من الارتياح، من الامتهان، من الرعب، تهادتْ فكرة خافتة في أطلال ذاكرتي: أنني أوشك على فك لغز النقش على شاهد قبر بورخيس.
لا تخف.
ضياء أحمد قاص أمريكي مقيم بسلطنة عُمان.
ضياء أحمد