نورماجين
أضحكني لسانها العربي المتكسّر لما سمعته أول مرة. كنت مبهورة بشعرها الأصفر، ولون جلدها المبيضّ، وعيون الجن الزرقاء المركبة على وجهها. طافت نور تسلم علينا واحدة واحدة، وحين أتى دوري انحنت نحوي وابتسمت لي وقبلتني في وجنتي، حينها قررت أن أناديها: نور- وحسب. إنه اسم وحيد لا تحمله أي امراةٍ في حلّتنا.
آه.. تذكرتُ. هناك حبوبة نور، ربما يمكننا نحن الصغار أن ننادي "حبوبة نور المدينة" بنور إذا نسينا اسمها الطويل الممل.
كان الطاهر يدور بها بين ناس البيت يعرّفها إليهم ويعرّفهم إليها ويتحاشاني، أما نور فكانت هي التي أقدمَت وتعرّفَت إليّ بطريقة ساحرة؛ حيث مسحت على شعري بيدها الرقيقة قبل أن ترتدّ تلك اليد منتفضة وكأن أشواكًا طعنتها. أظن شعري الخشن هو الذي طعن جلد يدها فارتدّت. رغم ذلك تبسَّمَت في وجهي، وأدخلت يدها في حقيبتها ثم منحتني قطعة حلوى لم أرَ مثلها قط في دكان الوسيلة.
جلست نور معنا منزوية وسط حوش النساء. أمي وأخواتي لم يُحسِنَّ ضيافتها فقمت أنا وملأت الكوز بماء الزير ومنحته لها. لم تشرب كثيرًا. أطالت النظر في ما بداخل الكوز، وأظنها خافت مما فيه. قالت لي: "تشوكرن".
أضحكني نطقها، ولم أعرف كيف أرد عليها. ناداني الطاهر فركضتُ نحوه. همَسَ لي دون أن يسمعنا أحد: كيف هي الضيفة؟ لا تفضحونا.
لم أفهم ما الذي عناه بالضبط، لكنه وضع في يدي وريقات نقدية، ودغدغني، ووعدني بفستان جميل يحضره لي من أمريكا. فرِحتُ وتركت الطاهر وركضت نحو نور. في المساء قادت الفتيات نورًا نحو شاطىء النيل، وهناك تركنها تجلس وحدها. لم يتحدثن معها كثيرًا. تركنها تعبث بالرمال و بالطين.
لحق الطاهر بها وجلس بجانبها. البنات مضغن سيرتهما كأنهن يمضغن كرات اللّبان التي نشتريها من دكان الوسيلة. بدت لي نور من بعيد تومئ وتحرك رأسها برقة مع الطاهر. كانت تتكلم وكأنها تهمس. لم أكن أستطيع أن أسمع حديثهما.
في الليل وقبل أن أنام سمعت أمي و أخواتي يوبِّخن الطاهر دون أن يرد عليهن أو يدافع عن نفسه. سمعتُ كلمات مبهمة تتطاير من مجلس عائلتي مثل: (تقاليد)، و(شرف العائلة)، وكلمات أخرى لم أفهمها. كنت منهكة من اللعب، ونمتُ سريعًا.
في الصباح طلبوا مني أن أوقظها. حين استيقظت ابتسمت لي كثيرا، لكنها لم تلمس لا رأسي و لا شعري. ارتدت ملابسها البسيطة الكاشفة سريعًا. حرَّكت رأسها كأنها تحيي أمي وأخواتي قبل أن تجلس معهن تشرب الشاي بصمت. قبل أن يستيقظ الطاهر كانت نوريسس قد خرجت إلى الشارع. لم أتركها وحدها، بل أسرعت لمرافقتها.
مررنا ببعض الشوارع الجانبية. رأيت الناس يتجمدون حين يرونها. بعضهم كان يرفع يده و يحييها بوجوم. حين تمر في شوارع البلدة الضيقة وأزقتها كان الناس يتركون ما يفعلونه ويمعنون النظر فيها وتتدلى فكوكهم كالبلهاء، أما هي فكانت توزع الابتسامات على الجميع، وحينًا تسلم على الناس بلسانها المكسر فيضحك الصبية و يسيرون جماعات خلفنا.
ذهبنا إلى شاطئ النيل مجددًا. جلسنا على الرمال. مرت ساعة قبل أن يلحق بنا الطاهر. هذه المرة تحدثت بلغتها الأصلية مع الطاهر وتركتني أنظر إلى الكلمات الغريبة التي تخرج من فمها. أطالت الحديث وبدت غير راضية، أو كأنها نادمة أو حزينة. كان شعرها ملفوفًا في ضفيرة صفراء واحدة. كانت هناك شعيرات و سَبيبات صُفْر تتطاير من أطراف رأسها، وكانت تعتمر طاقية قش فوق رأسها. نعم، أحببتُ تلك الطاقية. ظننتها ستهديني إياها قبل أن تتركنا. لم أكن أعرف لم أتيا أو متى سيغادران القرية. مع مرور الأيام بدا الطاهر منزعجًا معظم الأوقات. كان يتحدث معها في أغلب الأحيان وهو يبدو غاضبًا، بالعكس منه بدت هي متماسكة ومستمتعةً بوقتها في بلادنا العجيبة هذه.
عُدنا أنا وهي معًا إلى البيت ذلك اليوم. هناك فتحت حقيبتها. لم تعطني حلوى هذه المرة. أعطتني دمية رائعة ناعمة الملمس وشعرها أصفر مثل نور، وتلبس فستانا قصيرا. وقعتُ في غرام تلك الدمية مباشرة و قرّرتُ أن تبقى معي إلى الأبد.
لم أفهم نورماجين طوال حياتي، لكنني كنت أظن أنني أفهم نورًا. أظنّني فهمتها لأنني أحببتها. أحببتُ هداياها وشعرها الأصفر. أحببت زرقة عينيها. لم تخفني عيناها، بل أحببتهما.
مرَّت أيام قليلة، ثم سافرت هي والطاهر. تركتنا في قريتنا البعيدة نتسامر لعدة سنوات حول زيارتها السريعة وحول لسانها المكسر وشعرها الأصفر و زرقة عينيها حتى بعد أن عاد الطاهر لقريتنا وتزوج من سعاد. لم نسأله عنها أبدًا، ولم يحك لنا عنها أي شيء مرة أخرى.
رقصنا في حفل زواجه، وصارت سعاد من ضمن نساء العائلة و هدفًا جديدًا لمشاكسات أخواتي. مرَّت الأعوام وما لبثت وملأت هي والطاهر بيتنا بالمزعجين الصغار. عادت حياتنا لما كانت عليه، عدا أنني كبرت وطارت مني براءات الطفولة، وحلّت بدلا منها أسئلة الحياة وألغازها وعششت في رأسي.
بقيت العروسة الدمية معي تذكرني بها وبزيارتها الغامضة. لست أفهم كيف و لِمَ يحبُّ إنسانٌ إنسانًا آخر، ولا كيف تقف الأسوار أو تتحطم بين البشر. قد تكون هناك أسباب لسفر الناس و ملاقاتهم. قد توجد في الدنيا قصص تجمع الناس في أطرافها، لكن تظلُّ هناك شخصيات تعبر نهر الحياة، ثم تمضي بعيدًا تاركة وراءها سحرها الغامض.
من تراك أنت يا (نورماجين)!
ضياء الدين عثمان حاج أحمد محمد أديب سوداني وأستاذ جامعي، حاز على جائزة حورس الاسكندرية للسرد الأدبي لعام 2014
ضياء الدين عثمان