مخرج
صباح فارسي
في الطابق العلوي ببيت جدتي غرفة مُنعت من دخولها. وحتى لا تراني جدتي، تسللت إليها ليلًا. وجدت داخل الحجرة دولابًا بداخله مرايا كبيرة تميل للصفرة يكسوها التراب والتجاعيد، وسطحها المصقول جثة باردة. وحين نظرت إلى المرايا بدت الجدران خلفي مغطاة بالصور. صور تهيم نحوي. صور قديمة متشققة لنسوة بالأبيض والأسود. وأخرى زاغت ألوانها؛ صور باهتة لوجوه شابات ترنو نظراتهن بعيدًا، فتيات في عمر الورد تعلو وجوههن قترة.
شيء ما شدني للمرآة. روح ما كانت تناديني، تصلني بالمرآة. نظرت إليها مشدوهة. وجدتني أمد يدي للزجاج، وما إن لمسته أناملي حتى غاصت كل يدي.
في نظرة خاطفة، رأيت وجه أمي. كانت تبدو في ريعان شبابها. يا الله! كم كانت جميلة، تمسك بمرود كحل حجري تغمض عليه أهدابها، تغرسه في عينها بوجع مرير. تمتم: "سأحضر زفافك. لن يقع يمينك، سأبدو أجمل من زوجتك الثانية، ضرتي القادمة." يسيل المطر الأسود على وجنتيها، تهذي: "سأرقص وأنا ذبيحتك المسفوح دمها." أبعدت يدي عن المرايا، راودني شعور عارم بمرارة في حلقي.
ولكنني سرعان ما كررت فعلتي، وما إن لمست أناملي سطح المرآة حتى رأيت عمتي العانس، بشعرها البني الفاتح وبشرتها النضرة. تضع أحمر شفاه يستعر رغبة على شفتيها المكتنزة. تبتسم باستهزاء: "له الزوجات ثلاث وأربع وعشرة، ولي هذا الركن المقيت في البيت، حرمك الله الجنة، كما حرمتني من الزواج حتى ترثني وتستأثر بميراث أبينا، قبحك الله حيا وميتا يا........" تسمي والدي. انتفضت. سقطت على الأرض. يا الله! يا الله! أي حقد هذا الذي يمتد لما بعد الموت؟ أي لعنات تنهال على والدي في قبره؟
في طريقي للخروج، وأنا فزعة، رأيت جدتي تنظر إلي بحنو وعطف. رداء أبيض يغطيها من رأسها حتى قدميها. فتحت فمها فبدت أسنانها البيضاء مصفوفة، وحركت رأسها بإيماءة كأنها تقول لي: "لقد رأيتهن."
مر شريط تلك الصور أمامي بعدما كبرت، كبرت كثيرا. عدت لبيت جدتي. لم تكن في مكانها المعتاد. هل كانت هناك في البدء؟ تسللت للغرفة والدولاب والمرايا. حينها رأيت نفسي، ولم أعرفها. تغيرتُ تماما. كيف وصلت هذه الكدمات لوجهي؟ كيف بهتت ابتسامتي؟ كيف ترك آثار مزاجه المتقلب على معصمي، على رقبتي، بل وعلى روحي؟ هل بكيت؟ لا لم أفعل، لن تفي الدموع هذه المرة. عاودت النظر إلى المرآة، لمستها فوجدتني أغوص فيها، لأخرج من الجهة الأخرى للمرايا. وهناك رأيتهن كلهن، كلهن.
صباح حمزة فارسي هي كاتبة وروائية سعودية تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة طيبة، وحازت على جائزة التراث الشعبي السعودي ٢٠٢٠ عن حكاية من التراث الحجازي. لديها عدة مؤلفات شعرية؛ منها شائك كغيمة وتوسد روحي وشغف قلبي، ونشرت رواية عازف القنبوس. شاركت في عدة ندوات أدبية وأمسيات شعرية وقصصية.