لمسة
بوبي سيباغ مونتيفوري
ترجمة: فاطمة الحارثي
عشت لفترات متقطعة في الصين بين عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٧. كنت أعمل صحفية في بكين مع البي بي سي أغلب ذلك الوقت. لم أكن هناك لأجل الوظيفة بل كنت مقيمة في بكين والوظيفة ساهمت في إطالة فترة إقامتي. أول قصة قمت بتغطيتها كانت عن إطلاق الصين لأول سفينة فضاء بشرية. أذعنا رسالة يانج ليوي للأرض عندما دار حول الكوكب بمفرده وقال: "كل الأمور على ما يرام." كان العام ٢٠٠٣، في الوقت الذي بدأت تتحول فيه الصين من دولة اشتراكية إلى قوة اقتصادية، ومن دولة نامية إلى عالمية بسلطة عظمى. أغلب الأخبار التي غطيناها في ذلك الوقت كانت عن الحماس والوعود بالتقدم، عن التلوث، والفرص غير المكافئة للمهاجرين إلى المدن، وعن اضطهاد الشعب عندما طالبوا الحكومة بالتعويض عن الأراضي التي أخذت منهم قسرا وباعها مسؤولون محليون. كانت قصة عظيمة لكن الظروف كانت محبطة. عند قرب نهاية وقتي هناك، قابلت العديد من الناس المصابين بالهلع لدرجة أنني بدأت أصاب به أيضًا. بعد أن أوقفت لعدة مرات، أصبت بالجنون. كنت أفتش وراء الستائر حالما أصل إلى البيت.
قبل أن أصل لتلك المرحلة، كنت شغوفة بالصين. الحياة هناك كانت بمثابة تشرب للغة وأسلوب المعيشة، تمامًا كالطفل عندما يتعلم أبجديات الحياة. كل يوم، شيء ما كان يلمسني. كثيرا من الأحيان كنت أُلمس من قبل أصدقاء وغرباء كالسيدة التي تكنس الشارع قرب مكان سكني. كنت أُلمس من باعة الماء، وأصحاب المطاعم، وكبار السن وهم يلعبون الشطرنج، ومن أناس آخرين كثر لا أعرفهم. أغلبهم لن ألتقي بهم مجددًا. التُقطت، ودُفعت، وسُحبت. استُخدمت كعكاز يستند عليه. تم لمس جسدي، ورفعت يدي. خلال هذه اللحظات الإيمائية الصغيرة، والحميمية أحيانًا بدأت باستيعاب التغييرات الكبيرة التي تفرض نفسها على العلاقات البشرية والحياة الشخصية.
للمس لغته الخاصة وقواعده التي تناقض ما تشربته من ثقافتي. كانت شوارع بكين بمثابة مشاهد لا تحصى للمس المتكرر. إذا تصادم الأشخاص أو احتكت أذرعهم أثناء عبورهم في الشارع لم يكن هناك داع للاعتذار ولا حتى الجفل. الغرباء يرتكزون بكامل أوزان أبدانهم على بعضهم البعض أثناء وقوفهم في الطابور. بدا أن لكل شخص نوعًا من تذكرة العبور للمسافة الشخصية لأي شخص آخر. المتسوقون وأصحاب الأكشاك يمسكون بأذرع بعضهم البعض أثناء التفاوض على السعر. الأشخاص يتزاحمون حول لعبة الورق في الحي. وفي المساء، تمسك النساء ببعضهن ويتعانقن بنفس أسلوب قاعات الرقص في الوقت الذي ترقص فيه بعض الفرق في أطراف الشارع.
اللمس العلني بين الغرباء له مضامينه المتعددة غير الجنسية أو العدائية. لكنه ليس محايدًا أيضًا. صحيح أنه في بعض الأحيان يتم الارتكاز عليك بسبب ضيق الحيّز أو لتساعد في حمل بعض الثقل من شخص ما. لكن في بعض الأحيان، تختار أشخاصًا تريد أن تستند عليهم، أو يتم اختيارك لهذا الغرض. باستطاعتك تكوين فكرة عن شخص ما بينما يفاوض سعر رؤوس الثوم، وتجد أنكما تمسكان بسواعد بعضكما أثناء الحديث أو قبل أن تذهب لأغراضك الأخرى. اللمس في الصين هو عبارة عن أداة محددة للتواصل أو لتعرب عن تقديرك لكيان شخص ما، لبريق أعينهم عندما يبتسمون، لصراحتهم في التفاوض، وللطف الذي يظهرونه.
شعرت بهذا النوع من اللمس مثل طوق النجاة تارة، ومثل العصف تارات أخرى. أحسست أحيانًا أني كنت أثب ثم أُرمى من شخص لآخر مثل كرة الطاولة. كنت أدفع وأُرفع حول المدينة من ذراع لأخرى. إذا كانت الدولة بمثابة رب أسرة صارم، فالشعب والناس في الشارع كانوا بمثابة الأم المهدّئة. أحيانًا، طريقة التعامل هذه تعطيك شعور المهد اللطيف المجدد للحياة. في أحيان أخرى، كانت الأيدي عليك بمثابة نوع آخر من التكتيم القمعي. لكن في أغلب الأحيان، كان اللمس مثل بلسم يهون أحداث اليوم وتعاملات المدينة ليشعر الناس بغياب التكلفة.
هدفي هو توثيق هذا اللمس الطبيعي، وفهمه. أستطيع القول بأن هذا النوع من الأريحية بين أجساد الغرباء ربما لن يصمد في وجه التمدن المتسارع. هذا اللمس كان واضحًا لدرجة أنني حررت كاميرتي من التصوير المعتاد لرؤوس وأكتاف الأشخاص الذين أقابلهم، وأخذتها للشارع.
قبل عدة أسابيع، وجدت شريط فيديو بملصق كتبتُ عليه "لمسة" وصوّرته في بكين في وقت ما بين ٢٠٠٥ و ٢٠٠٦. ضوء خافت يسطع بلون ذهبي مورد على أوجه الناس. محل ملابس في واجهة الشارع يبعث بوهج تقني على شارع مشاة ضخم بالقرب من مركز المدينة. كان هناك صف طويل من الزبائن ينتظرون الدخول. وجهت كاميرتي نحو القُرب بين هؤلاء الناس الواقفين في ذلك الطابور. قرّبتُ العدسة على شخصين بالتحديد؛ أحدهما أكبر في السن، ربما في الستينات من عمره. كان يلبس معطفًا بنمط عسكري وقبعة رأس رمادية من الصوف. أمامه شخص يبدو أنه في الأربعينات من العمر ويلبس معطفًا قرمزيًا ملطخًا ببعض البقع من دهان أصفر. كان الرجلان يستندان على بعضهما البعض. الرجل بالجاكيت العسكري يصطدم بالرجل ذي الجاكيت القرمزي عدة مرات أثناء التفاته ليرى لأي مدى طال الطابور خلفه.
اقتربا من مقدمة الصف. تحركت معهم والموسيقى تصدح مثل قلب يخفق من داخل جسد ما استخدمت له مكبرات صوت حتى يصل للشارع كله. بدأ الرجل باللباس القرمزي في الرقص. بي-بوم، بي-بوم دوّت الموسيقى، والرجل يرقص من اليسار لليمين. يرقص في كل مرة ينسجم فيها مع النغم. كان واقفًا بالتفاتة في الصف، يده اليمنى ترتطم ببطن الشخص ذي المعطف العسكري تكرارًا مع إيقاع الموسيقى. الرجل ذو المعطف العسكري لم يحرك ساكنًا، وبدا أنه مرتاح ومرحب بالخبط كأنه لم يلاحظه البتة. خلال مشاهدتي لهما، بدا أنه من المستحيل أن هذين الرجلين لا يعرفان بعضهما البعض. من المؤكد أنهما مقربان إما أصدقاء، أو زملاء عمل، أو حتى من العائلة نفسها، ولا أستبعد أنهما أب وابنه. قبل أن أضغط على الزر لأتخطى المشهد التالي في شريط الفيديو، إذ بصورة الرجلين تكبر. كنت قد اقتربت منهما بكاميرتي، ووجوههم تملأ الإطار. سمعت نفسي أسألهم: "من أين أنتم؟"
"هيبي،" قال الرجل باللون القرمزي.
"هيوبي،" قال الرجل بالزي العسكري.
هيبي تعني شمال النهر، وهوبي تعني شمال البحيرة. تفصل بين المقاطعتين ما لا يقل عن ستمائة ميل.
سألتهما:"كيف تعرفان بعضكما البعض؟"
تداخلت أصواتهما:
يجيب الرجل بالمعطف العسكري:"نحن لا نعرف بعضنا."
مؤكدا الرجل بالمعطف القرمزي: "صحيح."
في أعلى سلالم بالية فوق بقالة لوكي هاوس في شارع شافتسبيري في لندن، توجد عيادة للطب الصيني التقليدي. غادر دكتور فان السِّتيني الصين منذ ثلاثين عامًا. عندما عدت إلى لندن أخبرني أن هذا اللمس الذي أتحدث عنه هو عبارة عن طريقة ريفية للبقاء سوية، "لمسة القرويين" كما أسماها. واجهت صعوبة في بكين لأجد أشخاصًا أتحدث معهم عن مغزى هذا النوع من اللمس لأنهم لا ينتبهون له. لكن، يخبرني دكتور فان وهو يضرب باطن قدمي ببراجم أصابعه، أن المثقفين وأصحاب الطبقة العليا يتسمون بالاستقلالية ودائمًا ما يتركون مسافة تقديريةً بين بعضهم البعض. خلال المدة التي عشتها في الصين، فترة الهجرة الجماعية والتمدن، كانت بكين بمثابة مدينة مكونة من قرى مكومة بعضها فوق بعض. أخبرني دكتور فان أنه خلال حكم ماو، كان الكل قريبًا جسديًا من الآخر خصوصا بين الجنسين، الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء. بعث ماو بالشباب المثقفين من المدن إلى القرى حتى يتعلموا من الفلاّحين لعل الأيادي التي تعرف ما تقوم به الأيادي الأخرى، تعرف بعضها البعض.
اللمس هو جزء مهم في الطب الصيني التقليدي. يقوم الأطباء باستشعار معاصم مرضاهم لستة أنواع مختلفة من النبض ليقوموا بالتشخيص. يستخدم التدليك للعلاج و الطب الوقائي. الضغط على نقاط معينة في الجلد يرتبط بأعضاء داخلية محددة، وبمجرد لمسها يسمح الضغط للسموم بالتحرك مما يخفف الالتهاب. في إحدى المرات، كانت لدي تقلصات معوية في رحلة بحرية استغرقت إحدى عشرة ساعة من شنغهاي إلى جزيرة في شرق بحر الصين. اقتربت مني امرأة لم أقابلها من قبل، وأخذت يدي. بحثت عن النقطة المرتبطة بالرحم وبدأت بالتدليك والضغط. تدريجيًا، خف الألم.
يانج شينج 养生 تعني "تغذية الحياة" وهي تتعلق بالسعي الفعال لحياة صحية من خلال الفنون الطبية مثل المساج والتمارين والغذاء. فكر في العافية، إن كانت العافية أقل ارتباطًا باشتراك النادي الرياضي وحقن السبيرولينا، وأكثرها ارتباطًا بمجموعة أفكار قديمة عن كيف تنمي طاقة جسدك لتحسن من صحتك ورفاهيتك. العافية في الصين ترتبط بالخوف على حياتك لئلا تكون عبئًا ثقيلًا على طفلك الوحيد عندما تكبر. عندما عشت في بكين، لم تكن تجارة اليانج شينج قد أصابت الجيل الأكبر المتمدن. كانت مجرد عبارة عن ثقافة جسدية للتناغم مع حاجات البدن والتي بدت في حيز الاعتبار أحيانًا، وفطرية في أحيان أخرى. كانت هي التي جمعت الأشخاص سوية للرقص في المساء و التمرن في الحدائق وقت الصباح.
في كثير من الأحيان أشعر أن هذا النمط من التجمع لمواكبة حاجات البدن ما هو إلا نوع من أنواع مقاومة تعسف الدولة. تواطؤ شعبي. ولو أنه من المحتمل أن هذا التكافل تم التمهيد له وتشجيعه من قبل النظام الشيوعي، إلا أنه يبدو لي كشكل من الاستقلال الذاتي. في مكان مليء بالمراقبة حيث الكلمات المذاعة والمنشورة لا يوثق بها، كانت هذه مساحة عامة للحواس كطريقة ليتفقد الناس بعضهم البعض. التواجد بهذه الصورة كان طريقة لاستمداد السعادة والحيوية من الناس بعضهم البعض دون سؤال أو أخذ أي شيء من أي أحد. هي علاقة تبادلية، وانفتاح، وانتباه للحاجة الشخصية.
أذكر المرة الأولى التي تحللتْ فيها حدودي الجسدية لأقبل لمسة واثقة وطبيعية من شخص غريب. كنت واقفة مع الحشد في مهرجان بوذا التبتي في دير بلابرانج حيث الجبال الرمادية الصفراء في شمال غرب إقليم غانسو. اقترب مني رجل في الثمانين من عمره وأحاط وسطي بذراعيه. التفت وأنا أشعر بالإهانة والارتباك. لم ينظر إلي ولكنه أمال برقبته على كتفي تجاه العرض. رأيت أن تشبثه بي لم يعن له إلا أن يكون قادرًا على الوقوف والرؤية دون أن يسقط. كان يستخدم جسدي كأنه جزء من جسده. نظرت حولي لأتأكد عدم وجود ما يستدعي القلق، وتأكدت. أذكر أنني شعرت بالسعادة لتعلق الرجل بي. عجوز يستخدم جسدي ليساعده كي يقف ويرى. كان شيئًا جميلًا. طلبت من صديقتي أن تأخذ صورة لنا من الخلف والأمام. وجهي يشع بابتسامة مشرقة كتلك التي تزورك عندما تقف أمام لوحة زيتية تحبها. لكن هذه اللمسة أقوى؛ لأنها تحدث في أي وقت غالبًا عندما لا تتوقعها، كما أنها شخصية. الوسيط فيها إنسان آخر. اللمسة هذه تعطيك شيئًا مما أسماه فرويد "الشعور المحيطي" عندما لا يعي الرضيع حدود جسده قبل أن تتكون لديه الأنا، عندما يكون الشخص متحدًا مع كل شيء حوله.
أتساءل أحيانًا إن كان هناك جانب خفي لهذه اللمسة، إن كانت سهولة الوصول لجسد أي شخص يمكن أن تفهم بصورة مغلوطة ممن لديه السلطة ليعتبرها حقا مشرّعا له. هل من الممكن أن تكون السبب وراء سرعة توظيف البلطجيين ليضربوا أصحاب البلاغات كطريقة لصدهم عن الشكوى ضد من هم في مقامات عليا؟ هل السهولة وغياب الرسمية بين الناس تشجع على الفساد بين المسؤولين ليتكلوا على مسؤولين آخرين فيؤثروا عليهم؟
في ذلك الوقت، كان اللمس بين الأصدقاء من الجنس الآخر مقيدًا في الصين بين كل الفئات العمرية. إن حاولت معانقة أو تقبيل أصدقائي الذكور وقت الافتراق، أصيبوا بالخجل وغادروا على الفور. لكن بين نفس الجنس، يتسكع الصديق على صديقه، والزميل على زميله خصوصا ذوي الجيل الأصغر. النساء غالبا يمشين وأذرعهن متشابكة، والشباب يمشون وأذرعهم على أكتاف بعضهم. في مواقع البناء يجلس الرجال في حجر بعضهم البعض.
اللمس الأفلاطوني يعطيك جرعة مباشرة من الحب والطاقة والصحوبية التي تلمسها من علاقة الصداقة. ربما اللمس بين الأصدقاء ترك طليقًا لأن اللمس الجنسي كان محرمًا في النظام الشيوعي تحت حكم ماو. كان الجنس محددًا بالزواج، لأن النظام أجبر المرء على ألا يشتته الجنس عن حبه الأول للثورة. الأزواج من الجيل الأكبر الذين نشأوا تحت هذه الأيديولوجيات تبدو عليهم الرسمية البدنية في العلن. عندما تحدثت مع أزواج من كبار السن كانوا جالسين بالقرب من بحيرة بكين الخلفية عن أنواع اللمس الذي يتشاركونه في بيوتهم، كانوا صريحين في أن الجنس هو الجنس، قالت لي إحدى السيدات: "بلا قبلات على الإطلاق." أخبرني رجل مسن عن علاقته بزوجته فقال: "أُمسّد ظهرها، وتُمسّدُ ظهري."
في قصة قصيرة صينية حازت على أكثر القصص مبيعًا في أواخر التسعينات بعنوان "أحب الدولارات" للكاتب جو وين، الراوي وهو أيضًا كاتب ويدعى جو وين قرر أن أفضل شيء يمكن أن يفعله لوالده الذي سيزوره في المدينة الكبيرة هو أن يساعده ليتعرف بأحد الفتيات. يقول الراوي: "عندما أفكر فيها، أستوعب أن والدي لم تكن لديه أي شهوة. وُلد قبل وقته. في زمانه، المعاشرة لم تكن تعرف باسم المعاشرة. كانت تسمى بالمثالية."
أدركتُ وقتها أن عماد الحياة الحميمية للجيل الأكبر في بكين كان يستشعر به في الشارع.
عندما عدتُ إلى لندن، كنت أتردد على بكين لأسبوعين كل عام. في ٢٠٠٨، تزامنت زيارتي مع الأولمبياد في الصيف. كنت هناك في ٢٠٠١، في الليلة التي فازت بها الصين باستضافة الأولمبياد. حينذاك قامت حفلة عشوائية في الشارع. هجر الناس سياراتهم في منتصف الطريق. كانوا في غاية البهجة لقبولهم من العالم أجمع. بعد سبعة أعوام، أصبح سكان بكين يتابعون الأولمبياد بامتعاض. أغلب بكين ٢٠٠١ تمت إزالتها لتستبدل بمدينة عصرية. وفي تجهيز متكلف للأولمبياد، تم تنظيف بكين. أي شخص عليه تساؤلات مبهمة تمت إزالته من منصبه قبل بدء الألعاب. قامت لجنة الحضارة الروحية في المدينة بمنع سلوكيات محددة مثل البصق، والعشوائية في الطوابير، وطيش الجسد. أُعطي المتطوعون من كبار السن أربطة ذراع حمراء اللون ورقم هاتف ليتصلوا عليه إذا ما واجهتهم مشكلة ما. كانوا يجلسون على مقاعد في الرصيف لمراقبة المارة.
قُيدت المدينة. لم أذهب للألعاب، ولكني أخذت كاميرتي لأسجل طرق لمس الناس لبعضهم البعض. كان من الصعب صيد حالات من نوع اللمس القديم. عدسة الكاميرا امتلأت بأيادي متشابكة وأذرع متداخلة لأزواج وأحباء من الجيل الصغير.
انتقل اللمس من الشارع للمنزل، من الحياة العامة للحياة الشخصية. أصبح مخصخصًا وجنسيًا. بدأ الجيل الأصغر يُظهر حريته على العلن في الشارع عارضا أنواعا مختلفة من الاهتمام، والرقة، والرعاية أحياناً بإيماءات معولمة تشبه رومانسية هوليوود. في "أحب الدولارات"، يقرأ الوالد بعض نصوص ابنه جو وين ويعترض تركيزها على الهوى: "على الكاتب أن يوفر للناس شيئًا إيجابيًا، شيئا ليقتدوا به، كالُمثُل والطموحات والديموقراطية والحرية." فيرد جو وين: "أبي، صدقني، كل هذه الأمور التي تتحدث عنها موجودة في الحب." في زمن والد جو وين، كان الحب خاضعا للمثالية، أما في زمن جو وين فالمثل الجديدة والصعبة أصبحت خاضعة للهوى.
تسارعت المدينة. لم يعد باستطاعة الناس لمس بعضهم البعض أثناء عبور الشارع كالماضي. أصبح للطبقة المتوسطة الجديدة أماكنها. استبدلت متاجر الأغذية بسطات الشوارع حيث لا مقايضة ولا حاجة للتواصل. في الواقع، أصبح الزبائن يقضون معظم الوقت على الهاتف الجوال مع شخص آخر. عدد العمال المهاجرين القاطنين في المدينة زاد بشكل كبير، ولكنهم منعزلون وينامون في سكن تابع لمواقع البناء وليس لديهم امتيازات مثل سكان المدينة. بينما كنت قلما في السابق أستطيع التمييز بين المهاجرين القرويين وسكان المدينة، أصبحت الاختلافات الآن بين من يصل من الأرياف وسكان المدينة بارزة في الأزياء والأوجه وبين ما يحاصرهم. المتمدنون الآن صاروا يراعون المسافات. أصبح هناك خوف متزايد من المهاجرين بأن يرغبوا فيما يمتلكه المتمدنون. بدأ الناس يتحدثون عن المهاجرين بأنهم أشخاص قذرون، خطيرون، وأن على الناس الابتعاد عنهم. أصبحوا غير عرضة للمس.
بطريقة أو بأخرى، نمط الغرف السوفيتية المملة حيث توجد صورة لقائد على جدار أبيض ودهان ممسوح على ملابسك، ظلت خلفية للناس ليكون لهم أمر جماعي فوق أكتافهم. لكن العمارة والبنية التحتية والمساحات العامة للرأسمالية الحديثة في بكين من أسواق تجارية براقة، وأبراج حديدية ضخمة، وقطارات تحت الأنفاق، كانت جميعها مساحات شجعت العامة ليصبحوا أكثر رسمية، ويتصرفوا بوعي ذاتي موسعين بذلك الفجوات بين الغرباء.
ذهبت لعيادة العلاج بمساج الأقدام، والتي كنت غالبا ما أتردد عليها في بكين، وللمرة الأولى، رأيت المدلك يلبس قفازات خشنة مصنوعة من البلاستيك. "لأغراض صحية فالمدينة تعج بالكثير من الناس الآن،" قال لي.
لم يعد التدليك والوخز بالإبر العلاج الوحيد. بدأت تظهر في التلفاز برامج العلاج النفسي. فبدل طلب العلاج باللمس كالسابق، أصبح الناس الآن مهتمين بالجلوس مع معالج نفسي في غرفة بها قواعد صارمة ضد الاتصال البدني. ومع غياب المعالجين النفسيين الذين يثق فيهم الناس، بعض الذين شعروا بالحاجة كي يفهموا دواخلهم أكثر بدؤوا بالتخصص كمعالجين ومحللين نفسيين. صار هناك أكثر من أربعمائة ألف مستشار نفسي مؤهلون في مدن الصين الكبرى.
عندما عدت للندن في ٢٠٠٧، افتقدت شعور اللمس الجماعي. استمررت في الاصطدام بالناس في الشارع. شعر أصدقائي بالخجل عند مشيهم بجانبي وأصبحوا يعتذرون للناس عوضًا عني وذلك لأنني لم أنتبه أني ضايقت المارة. ولكن بعدها، تكيفت مجددًا مع شوارع لندن وأصبحت أتضايق من اصطدام الغرباء بي. ثم فعلت ما قد يفعله أي شخص في بداية القرن الواحد والعشرين عندما يكون لديه مشروعٌ يتعلق بالحوّاس. ذهبت للتحدث مع عالم أعصاب.
يتمركز عمل فرانسيس ماكجلون حول المستقبلات العصبية في جلدنا والتي تعرف باسم C-tactile afferents التي تم اكتشافها مؤخرًا في البشر. مواطن هذه المستقبلات هي في الجلد المشعر، وتتمركز في الظهر، والجذع، وفروة الرأس، والوجه، وأعلى الذراعين. تستجيب للمس البطء والخفيف، ولا تتواجد في المناطق التناسلية. عندما تحفّز خلال التمسيد، فإن أعصاب الخلايا الاستقبالية تصدر بهجة. ليست بهجة جنسية، وإنما مثل نوع الإحساس الذي ينجم عن اللمس بين الأم وطفلها. علماء الأعصاب يسمونها "لمسة اجتماعية."
ألياف هذه الأعصاب قديمة حيث تواجدت في حياة الفصائل منذ القدم قبل اللغة، وقبل الأعصاب الاستقبالية التي أخبرتنا أن نبعد أيدينا بعيدًا عن الألم مما يدل على أهميتها لحفظ الحياة والصحة. في القدم، احتجنا للبشر بالقرب منا خلال مراحل حياتنا لمساعدتنا على النظافة والتخلص من الطفيليات. كانت هدية بقائنا مع بعضنا البعض، هي السعادة.
ماكجلون مهتم باللحظات التي غلب فيها التمدن على ما يسميه بعمليات التطور. يؤمن بأننا نحتاج لتحفيز الخلايا الاستقبالية منذ الولادة لنمو الدماغ الاجتماعي. عندما حكيت له عما لاحظته في بكين، أخبرني أنه من المحتمل أن الفقراء يجتمعون مع بعضهم البعض أكثر من الأغنياء لأنهم يعتمدون على بعضهم في البقاء. وصف مجاله الطبي حيث يتفرد كل شخص بنفسه لينجز مهمته، وقال أن من فوائد التباعد الاجتماعي أنه يتيح للعقل التفرغ لإنجاز مهمات أخرى. ولكن فرانسيس ماكجلون قام بالفعل بجمع الناس مع بعضهم البعض. يشرف على لجنة الحسية الجسدية وعلم الأعصاب الوجداني في جامعة جون موريس بليفربول. يعمل العلماء والأطباء النفسيين في هذه اللجنة على دراسة العلاقات بين المستقبلات الحسية وحياتنا العاطفية.
دعاني ماكجلون لأقدم ملاحظاتي من بكين على اللجنة. قالت جين مورتون، معالجة تدليك ومعالجة مهنية لشرطة مقاطعة تشيشر أن وصفي ذكرها بمكان نشأتها في ويرال (شبه جزيرة في شمال غرب بريطانيا) في السبعينات. أدار والداها نادي المنطقة الاجتماعي، ووصفت كيف أن الرجال كانوا يستلقون في غرفة والنساء يتشابكن الأيادي في غرفة أخرى. كان الرجال قد انتهوا من الخدمة الوطنية وبحاجة للتقرب من الأشخاص الذين مروا بنفس التجربة. والنساء اعتدن غياب الأزواج وكن يقضين الوقت مع صديقاتهن اللاتي كن في المنزل مع أطفالهن. عندما أغلقت الكنيسة في بداية الثمانينات، أغلقت معها المدرسة والنادي. تفرق الجميع وأصبح الناس يقضون أوقاتهم مع عوائلهم. ثم تغير مجتمع منطقة الويرال، وأصبح أكثر تنوعا ومتعدد الثقافات، لكن بلا مأوى للتجمعات. تقول جين عن الثمانينات: "إن تنظيم الفعاليات للوالدين في المدرسة أصبح أصعب من قبل وذلك بسبب ارتفاع حالات الطلاق. الوالدان وأزواج الأب والأم لم يكونوا موجودين في نفس الغرفة."
جعلني هذا أتساءل إن كانت المجتمعات تتفرق، والعناد يغلب على العلاقات بين الأزواج، فهل الضغط على كل أنواع اللمس التي وجدتها في شوارع بكين تؤثر على شخص واحد؟ ربما نستطيع مع الجماعة إعادة الحميمية التي تمتعنا بها منذ نعومة أظافرنا مثل لمسة الأم الحانية. هذا النوع من الاهتمام هو الذي نتوق له دومًا، ويشعرنا أننا بخير، وأننا جزء من العالم حولنا ومن الأشخاص الذين نثق بهم، حتى لو كانت تلك الثقة مقاسة بلحظة واحدة. صافحت فرانسيس عندما افترقنا. لم نتلامس عند التقائنا أو عندما قلنا إلى اللقاء في الليلة الماضية. تحدثنا لعدة ساعات بجدية. ولكن عندما قادني إلى الدهليز في الجامعة، ربت على ظهري ناحية عظم الكتف. لمسته أعطتني انطباعًا أنه يعتقد أنني على حق. كان شعورًا جيدًا.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جعلت الكتّاب والأمميين يتحدثون عن بُعد بريطانيا عن العالم. تم إعلان لندن أنها بعيدة كل البعد، ومقدم تلفزيوني اعترف بأن وكالة أنباء البي بي سي قد أصبحت تفتقر للتواصل مما جعل الكلمات عديمة الثقة. نحن في زمن ما بعد اللمس، ما بعد الحقيقة. كيف يمكن للمجتمع أن يتواصل الآن؟
هل من المعقول أن تتقد المخاوف ويزيد القلق عندما يكون البشر غير قادرين على التواصل مع بعضهم البعض؟ ليس فقط من المؤسسات النخبوية ولكن من بقية سكان العالم؟ تم إغلاق قاعات الكنائس والمراكز الاجتماعية. مساحات العمل التي لا تتطلب حدًا أدنى لساعات العمل توفر فرصًا ضئيلة للاندماج مع الناس. توجد أماكن قليلة يتمكن فيها الناس مشاركة العالم وصنعه بأيديهم.
ربما هذا الانفصال الاجتماعي يعني أن البشر يشعرون بالتهديد من فكرة أن لدى المهاجرين شيئًا لا يملكه غالبية السكان وهو المجتمعات الأدائية. ينشئ المهاجرون الجدد غالبًا شبكات اجتماعية للعمل ومساحات للأكل، وللحديث بلغتهم الأصلية، وممارسة طقوسهم الدينية، والعيش قرب بعضهم البعض. هم يحتاجون بعضهم للبقاء. مغزى اللمسة هو أنها مرئية وجلية. إن لم توفر المجتمعات احتواء كافيًا لأفرادها، فالبشر الذين يشعرون أساسًا بالانعزال سيشعرون بالاستقصاء من المجتمع ومن الروابط التي بإمكانها جعلنا نساعد بعضنا بعضًا على الازدهار.
الولادة والحداد هما أكثر اللحظات حدة في الحياة والتي تتطلب منا زيادة البعد عن أقرب الناس إلينا. البعد والقرب عمن نحب وعن باقي البشر يحدد بعوامل مثل: الاقتصاد، الاتجاهات الفكرية، والهوية. تطبع المدن الكبرى نفسها على التفاصيل الحميمة في حياتنا. تجربتي تقول إننا لسنا عالقين. بضعة أشهر في عالم مختلف من الأفكار كفيلة بأن تجعل أبداننا تستجيب، وتتكيف، والمساحة بيننا يمكنها أن تتغير مجددًا.
بوبي سيباغ مونتيفوري هي كاتبة وصحفية إنجليزية حصلت على عدد من الجوائز. تعمل الآن على بث برامج صوتية عن الصين مع تورتيز ميديا في المملكة المتحدة. يمكن متابعتها على تويتر: poppysm@
ترجمة: فاطمة الحارثي