سيرة عبث
متعب الرمالي
(شيءٌ من حياتي السابقة وأحلامي الضائعة (لا أدعي أهميتها) وددت نشره قبل أن تزدحم ذاكرتي بمواقفٍ أخرى فتتلاشى. أو أن يتقدم بي العمر وأصبح أكثر رزانة، فأراها حوادث سخيفة وأحلامًا طائشة. أمحوها من الوجود لتتبخر، لا ينطقها لسان، ولا يسطرها حبر.)
في اليوم الأول من السنة الأولى للدراسة الثانوية قررت ألا أذهب إلى المدرسة. عاتبني أبي لفظيًا وجسدياً، والعتاب الجسدي كان مؤلمًا جدًا. أراد مني أن أعود للدراسة، ولكنني رفضت. مرَّت سنتان، ولم أغيّر موقفي بها. كنت أرى نفسي فلتة الفلتات (ذكاء لا يجاريني بهِ أحد)، وأنفر من كتب المدرسة الموجهة للذكي والغبي، للنشيط والخامل، فأتيت بأمهات الكتب لتغطي سريري وأقضي الليالي أحتضنها، تزدحم الأرفف بها، كل ما حولي مجلدات.
في رحلةٍ للعائلة، أبي يشكو إلى أحد الأقارب عزوفي عن الدراسة: "متعب تعبني وما يبي يدرس." التفت إليَّ قريبي وسألني: "وش بتسوي طيب؟" ففكرت مليًا ثم أجبت: "بصير كاتب، أو عالم، ويخلدني التاريخ." مرت ببالي عشرات الأسماء التي سأحذو حذوها في هذا الطريق، لن أصبح أكاديميًّا، فلربما كنت كأحمد بن حنبل؛ أطرد من المسجد، أنام عند خباز. أو أبي حيان التوحيدي، أنام في الصحراء، وآكل الخضر، لكنني عالم في نهاية المطاف. بدا أن الجواب لم يعجب قريبي، ولكنه قال بعد تنهيدة: "الله يوفقك." خرجت من شفتيه وكأنها دعوة متنكرة بعبارة: "بتعيش وتشوف إنك خطأ، وإننا صح."
لم يرق لي يومًا أن آتي صباحًا طالبًا للعلم: فيتم التفتيش على شعري ليرى المعلم إن كان الشعر زائدًا عن الحد (ولكل معلم مقياس في هذا)، فإن نسيت أن أحلقه تتم محاكمتي بحضور عدد من الجلادين، عفوًا المعلمين. وإن تجاوزت هذا التفتيش ووصلت إلى القاعة الدراسية متأخرًا ٥ دقائق عن موعد الحصة، يتم تعزيري أيمَّا تعزير، وينطلقون في طلب أبي ليخبروه بهذه المصيبة التي وقع فيها ابنه. أعود إلى الحصة، يقابلني معلم قد كلفني بواجبٍ منزلي، ولكني كنت في الليلة السابقة أقرأ لابن رشد تلخيص القياس لأرسطو. أحاول الاعتذار، لساني يتلعثم، أرى المعلم يأتي بعصا لا قبل لي بها فتتراقص بين كفيه وهو يرفعها عاليًا في الهواء ثم يهوي بها على يدي الرقيقة وكأنها أفعى تدس السم باليد حتى تحتقن حمراء كتنورٍ مشتعل. يرن الجرس معلنًا بدء وقت تناول الطعام، أخرج حقيبتي وبها (صمونة جبن). آتي على التهامها وإذا بها قد أصبحت يابسة. ضجيج من حولي، معارك تندلع بين الفينة والأخرى بين الطلاب. تستمر هذه الأحداث السوداوية يوميًا، وأتساءل ماذا لو كان محمد ابن رشد طالبًا في مدرسة، هل سيكون هو ذاته ابن رشد الفيلسوف المتأمل؟ أم سيسحقه هذا الروتين حتى ينطفئ نجمه ويهرول باحثًا عن وظيفة فور تخرجه!
قبل هذه الأحداث، كنت فتى يحلم بتحرير العروبة. أريد للعرب أن يكونوا سادة العالم، كما كان يضعنا التاريخ دائمًا، أود أن أكون ضمن إطار كبير يكافح لرفعة العروبة، ولطالما تقمصت شخصية غسان كنفاني، أحاول تقليد مقاومته وردوده القاسية. في رواية 1984 كان جورج أورويل يلعن الأنظمة الشمولية، ولكنني كنت أقتنص عبارات أوبراين وأضعها موضع الإعجاب، كقوله: "ألا تستطيع أن تفهم يا ونستون أن الفرد ليس إلا خلية؟ وأن انحلال الخلية ليس إلا قوة للكائن العضوي كله؟" أقول في نفسي: "نعم ما نحنُ إلا خلايا لرفعة الأمة، يجب أن أموت ويحيا العرب."
وامتدت النزعة العروبية إلى حياتي الاجتماعية التي أصبحت أكثر صعوبة. لم يعد لدي أدنى مشكلة في أن أظل ساعة أمام محضر القهوة أردد عليه طلبي: "قهوة بالفستق،" مع قدرتي التامة على قول (بستاشيو لاتيه) ولكن هيهات ثم هيهات أن أتخلى عن عروبتي وأتحدث باللسان الأعجمي. وأتذكر ذلك الشاب الذي سألته عن كيفية النزول من طابق إلى طابق آخر بعد أن أقفلوا الدرج لتنظيفه، فقال: "استخدم اللِفت." فحدجته بنظرةٍ قاسية أردفتها بقولي: "عفوًا؟" فقال: "الأصنصير نهاية الممر." ضقت ذرعًا بهذا الشاب المسكين الذي سقط في وحل التغريب، فهززت رأسي أسفًا حتى أصابني الدوار (ليشعر بأن ظني خاب فيه) وقلت: "قصدك المصعد؟ حنا عرب،" ففهم أنني معترض على اللفظ: "إيه المصعد الله يعافيك،" وأعقب جملته بابتسامة اعتذار. لهذا الشاب أقول: أنا آسف يا عزيزي، وبالمناسبة ابتسامتك جميلة ومشرقة.
دعوني أخبركم عني: أنا أعشق العبث، لا أجيد فعل الشيء كما يجب أن يكون، أو أن ألتزم بنظامٍ لا يتبدل. ربما استطعت أن أكتب المقال كله فصيحًا، ولكنني أؤثر دائمًا أن أبتر الجملة البليغة بكلمةٍ شعبية. أحب أن أعبث بالأغنية، أن أبدل الكلمات التي تقال إلى كلمات أخرى تناسب موقفي. ليس إلى هنا فقط ويتوقف، بل يستمر العبث إلى مراحل متقدمة: يروق لي أن أمارس العبث في التعريف عن نفسي. فتارة أكون سائق (تاكسي) أتعبته الحياة، وتارة أصبح (سيكيورتي) ينفذ راتبه في ثاني أسبوع من الشهر. أحب أن أضفي على نفسي صفةً مختلفة في كل حوارٍ مع غريب، والصفات كلها تشترك في كونها بروليتارية. لو قلت إنني مسؤول أو مدير لن يصدقني أحد، ما هذا المسؤول الذي يأكل (تصبيرة لوزين) ويشرب (حليب بالشاهي) ويسافر في (النقل الجماعي)!
ذات مرة جلس إلى جانبي رجل في عقده الخامس، فمه في حركةٍ دائمةٍ لا تهدأ، ولديه فرط في الحركة خصوصًا في أكتافه. عندما بدأنا التحدث سألني عن صفتي، أخبرته بأنني طالب في الجامعة. ثم رددت إليه السؤال عن شهادته، فقال: "لا يوجد لدي إلا شهادة حياة." وفي منتصف الرحلة قال لي إنه مهندس اقتصادي! هو الوحيد من الذين قابلتهم كان يمارس ذات العبث الذي أمارسه. حدثني عقلي أحاديث كثيرة عن مصداقيته، لا وجود لوظيفة بهذا الاسم. نعم قد سمعت بالهندسة الاقتصادية، ولكن لا يوجد مهندس اقتصادي، أو أنه قد يكون موجودًا. ثم قلت لعقلي ليست قضية مهمة، ما الضير أن يكون مهندس في هذه الرحلة التي لا تتجاوز بضع ساعات. يتمتع بكونه إنسانًا له صفة اعتبارية ويعمل بشركة ضخمة، ويعود لحجمه الطبيعي حين يصل إلى أهله.
تبخر حلمي في رؤية العرب أفضل. أصبح الحلم أن أغدو مختلفًا عن العابث الأول. أن أصحو صباحًا، أزيح لقب "الخفاش" عني، اللقب الذي وصمتني به العائلة لنومي في النهار وصحوي في الليل. كيف لي أن أكون في التاسعة -كحد أقصى- بالبيت. ألا أعود إليه في الثانية صباحًا بعد أن أترنح تعبًا، أن تصبح الأماسي مليئة بالكتب، أقلب صفحاتها حين ينام الجميع. حتى المشروبات الغازية لا أريد أن أشربها. هل رأيتم فيلسوفًا أو مثقفًا يشرب "حمضيات"؟! سأغدو صارمًا مع نفسي إلى أن أبلغ ما أريد.
تبخر حتى حلمي في رؤيتي شخصية خالدة. عدت إلى ما كنت عليه؛ فتى يحمل مغلفات الفشار وعددًا كبيرًا من البيبسي الدايت أمام (الكاشير). قال لي المحاسب ذات مرة: "واضح إنك عزوبي." أردت أن أقول: "لا دخل للعزوبية في هذا الأمر. تحدث عن البؤس، هو الفيصل."
لا ارتباطات. لا التزامات. أصبحت مجرد فارغ يقضي أيامه في غرفة لا يوجد بها إلا ضوء خافت في آخر الحجرة، وملابس مبعثرة على الأريكة. يستلقي بشكلٍ غريب قد يؤدي إلى كسر عموده الفقري ذات يوم. يزيد من برودة المكيف حتى تصبح الغرفة فرعًا عن قرية أويمياكون*. وجهه يتسمر لمدة طويلة أمام الشاشة، ويتابع العديد من الأفلام والمسلسلات. ويغطي جسده غطاء سميك، لبرودة الغرفة، ولكنه يخرج قدمًا واحدة منه. لو قيل لي أن أصف الفاشل ووضعه لم أزد على وصف نمط حياتي في تلك الفترة. أجبرني الفراغ على السير في هذا الطريق، عندما رأيت الفراغ لم يعد يصب في طلب العلم، بل يصب في نشاطات لا طائل منها، عدت إلى الدراسة وأكملتها.
تهاوت الأحلام الكبيرة. أضع رجلاً فوق الأخرى وأتأمل التغيرات، أشرب قهوتي، أو كما يقول سدنة الثقافة أحتسيها، وأنظر للآمال المطمورة. كل فرس كنت أراهن عليه ومن ثم بدا ضعيفًا وهزيلًا. أكتب هذا المقال في غرفة المعيشة وأشعة الشمس تتسلل من وراء الستارة وتحاول عابثة أن تسليني، ولكنني أعد خسائري. عن تلك السنوات التي قضيتها محاولاً إدراك التفاوت ما بين من يؤمن بالبديهة لإثبات وجوده، وبين من يؤمن بالبرهان الرياضي. عن ساعاتي التي قضيتها بالقرب من كتب النقد في محاولة لفهم المقاييس النقدية أخلاقيةً كانت أم دينية. عن أيامي التي ذهبت وأنا أفكر بفكرة الوجود والعدم، وأن العدم هو جزء من أجزاء الوجود لأنني لا أستطيع القول بأنه لا شيء لوجوده اسمًا على الأقل... عن كل الذي أجهدت عقلي به، ومن ثم صحوت على صوت المحاسب وهو يسألني إن أردت الدفع نقدًا أو ببطاقة.
أما الآن: بدأت أركز على أشياء أصغر، لكنها ثمينة. أتمنى أن يكون الماء باردًا حين أستحم، وهذا ما يجعلني أستحم فجرًا من كل يوم. أصبحت ممتنًا للاجتماع العائلي، للنكتة القديمة التي لو رددتها ألف مرة لما ضحكت عليها، ولكن لأن الجميع من حولي يضحكون تصيبني عدوى الضحك وأضحك. أود أن أتمكن من إعداد طبق لذيذ، ألا أحتاج إلى وضع الفلفل والملح بكميات كبيرة لتغطي سوء المذاق. ماذا ينقصني ليكون فطوري عدة أطباق صحيَّة بدلاً من الفول المحترق والمعلبات المتراكمة في الدرج؟ أن أحضر في مواعيدي، وأرتب جدولي الأسبوعي. أتمنى من الطقس أن يكون جيدًا في الصباح. أترقب السماء قبل فتح الستائر لعل الغيوم تغطيها. أرجو أن يكون الكتاب ذو العنوان الجيد محتواه جيد أيضاً، ولا أقع في مقلب التسويق للكتاب من عنوانه. أتوق في كل صباح إلى القهوة التي أصنعها عصرًا، مع ممارسة الكثير من النشاطات عديمة الفائدة. أصبحت مغرمًا بأشياء صغيرة. لم تعد تهمني النواميس العالمية. آمل من الحياة أن أحيا فقط.
* قرية أويمياكون: هي قرية في شمال روسيا بالقرب من القطب الشمالي المتجمد، وعرفت ببرودة طقسها الشديد.
متعب الرمالي، كاتب يقيم في المنطقة الشرقية. نُشرت له عددً ا من المقالات في مجلة اليمامة، صحيفة اليوم، مجلة فرقد، وصحيفة الوطن. يمكن متابعته على موقعه الإلكتروني وعلى حسابه في تويتر @mtabalrmali