عـد تـنـازلـي
مريم جمال الحارثي
انكفأت على سريرها وهي لا تشعر بقواها. الدموع المنهمرة من عينيها سرعان ما بللت منشفة لا تزال تحمل رائحة معطر الخزامى. ضيق صدرها يتزايد وكأن جبلًا سرى من مكانه ليجثم فوق قلبها، فلم تعد قادرة حتى على إطلاق صرخة مكبوتة بقيت داخل جوفها تزيده ضيقًا على ضيقة. مشاعرها و كأنها فوهة بركان تتنظر ساعة الصفر لتطلق "اللاڤا" الحمراء، فتسيل في كل الاتجاهات لتخفف من حدة الصراع الذي يدور في أعماقها.
تحاول جاهدة أن تكون كالصورة التي رسمتها لذاتها، والمتأثرة بتربيتها. تُقدّم حسن الظن حينًا، وتبدأ في العد التنازلي حينًا. نعم، العد التنازلي كيف لم تفكر به هذه المرة؟
عشرة..
تسمع صوتها يقول بغضب "من سمح لكم بالحديث باسمي؟"
تسعة..
نبرة صوتها فيها حدة لا تظهر كثيرًا، ربما لم يكن الموقف يتطلب كل هذه الحدة.
ثمانية..
كانت القشة التي قصمت ظهر البعير أن يوافقوا نيابة عنها لتكشر عن أنيابها.
سبعة..
إجماع أشقائها على أمر زواجها لا يعطيهم الحق في اتخاذه.
ستة..
إحراج والدها مع أهل العريس، ليس إلا عذرٌ إضافي للضغط عليها.
خمسة..
التعذر باستقبال الضيوف دون أي وعد بإتمام العقد ليس إلا مهزلة.
أربعة..
التظاهر بمشاورتها في الأمر بعد أن تم تحديد موعد الزيارة تجاهل صارخ لأدنى حقوقها.
ثلاثة..
التذرع في الجدال برضى الوالدين ليس إلا ابتزاز عاطفي.
اثنان..
انفعالها وغضبها رغم أنها أصغرهم سناَ كان مبررًا.
واحد..
إن كانت تنأى بنفسها عن التصادم فهذا لا يعني أنها ضعيفة.
تتنفس تنفسا عميقا، عميقًا ليطهر قلبها من هذا الضيق فيبدأ بالتلاشي. ولكن يبدو أن الأحداث التي مرت بها مؤخرًا كانت أقوى من قدرة تنفسها العميق. أغمضت عينيها بشدة، لن تستسلم. ستعاود العد مرة أخرى. لقد أثبت دومًا فعاليته وخفّ ضيقها، تريده أن يزول تمامًا.
عشرة.. تسعة.. ثمانية..
بدأ نفسها يهدأ ترنحت قدماها من السرير، ببطء نهضت، ومسّدت بيدها لتتأكد من ترتيب لحافها المورّد.
سبعة.. ستة.. خمسة..
قطعت المسافة بين سريرها وبين الباب، امتدت يدها تفتحه بخفة.. تناهى إلى مسامعها أصوات متداخلة بين ضحكات وعبارات لم تتضح لها مفاهيمها.
أربعة.. ثلاثة..
تهادت مشيتها في الممر، التقت أفكارها بعينيها البندقيتين وهما تنظران إليها بحيرة من مرآة معلقة في آخر الممر واقفة بلا حراك تشهد الأحداث بصمت ، تعكس لكل مارٍ ما يجول في دواخله.
اثنان.. واحد..
بدأت تشعر بالارتياح، نظرت إلى عائلتها من حولها، انطلق نحوها ابن اخيها الصغير ليحتضنها بيديه الصغيرتين الملطختين ببقايا الشوكولاتة الذي لم يسعفه الوقت لتنظيفها.
"أحبك قد الدنيا".
ابتسمت له وتجاهلت هوسها بحب النظافة. جلست على ركبتيها واحتضنته بصمت. ترقرقت دمعة من عينها. التقت عينيها بعيني والدها. ابتسمت له، وهزت رأسها علامة الرفض.
مريم جمال الحارثي هي أكاديمية وكاتبة من المدينة المنوّرة. صدرت لها ثلاث روايات أوراق الماضي، البوارق، ورماد.